إعمار غزّة .. إعمار الإنسان
د. موسى برهومة
22-06-2024 11:24 AM
الحديث عن "إعادة" إعمار غزّة، بعد التدمير المنهجيّ الذي قامت به، وما تزال، قوّات الاحتلال الإسرائيليّ، هو في حقيقته حديثٌ منفصل عن الواقع. إنه كمن يستلّ خطابات الحروب التي جرت في العالم من الأرشيف، ويريد أن يُطابق بين الماضي والحاضر.
كلّا، الأمر مختلف، وربما لم يتكرّر، ولن.
هل سأل الذين يلوكون هذا التعبير أنفسَهم عما تبقّى من غزّة لكي يتعمّر. لقد تهّدم كلّ شيء. وما لم يتهدّم فهو غير صالح لعيش البهائم. إذاً المطلوب، إذا مال الزمان يوماً لمصلحة الفلسطينيّ، أن يتم إعمار غزّة، وإعادة خلقها من جديد. لا تسلْ عمّا تهدّم. سلْ عمّا بقي من أطلال لم تُصبها قاذفات الصواريخ الأمريكيّة العاملة في جيش الاحتلال.. والأسلحة الفتّاكة عديدة المنشأ، وقد يُعيي الإحصاء من يتنكّب هذه المهمّة!!
غزّة الآن ليست غزّة. لن يعرف العائدون إلى غزّة عناوين بيوتهم. لا تقلْ لي إنّ القلوب تعرف المنازل ولو تهدّمت، لأنّ القلوب تهدّمت قبل ذلك، وضاعت بوصلة الأرواح، حين لوّحت يد طفل من تحت الأنقاض فقصفها قنّاص، ثم رقص فرِحاً. لقد أطفأ نفْساً بغير حق "وكأنّما قتل الناس جميعاً".. ولكن من يأبه بذلك يا الله؟!
ولئن كان إعمار غزّة صعباً وطويل الأمد ولن يمحو آثار "الهولوكوست الفلسطينيّ" التي أضرمه، بحقد وثأريّة متوحّشة، أحفادُ "الهولوكوست اليهوديّ"، فإنّ إعمار الإنسان قد يستغرق آماداً بعيدة، وقد لا يتحقّق، لأنّ جذوة الضمير قد احترقت.
لقد نعى كثير من المفكّرين المعاصرين موت الإنسان، لا بالمعنى البيولوجيّ الفنائيّ، وإنّما بالمعنى المعرفيّ، لكنهم كانوا يقصدون، كما فعل ميشيل فوكو، موت الإنسان تحت أضراس آلة التهميش في المركزيّات الكبرى التي جرّدت الإنسان من كينونته، وذرّرت ذاتيّته وشيّأت وجوده، فغدا بفعل هذا التجريف المستمر مجرّد برغيّ صغير و"تافه" في ماكينة عملاقة تحصد أعصابه وترمي في وجهه الفتات. إنها تفكّر في استثماره، ولا تفكّر فيه. وهذا ثمرة الزمن الرأسماليّ المتوحّش؛ حيث مَن لا يعمل لا يأكل!
سينبري من يقول إنّ حالة التضامن العالميّ من المأساة في غزّة لم يسبق لها مثيل، وأنا أخشع لهذه الأصوات الإنسانية الشجاعة. ولكن قلْ لي بربّك: هل استطاعت هذه الأصوات الجسورة أن توصل حبّة دواء لغزّة، بل جرعة ماء، أو كِسرة خبز؟ إنها أصوات، على أهميتها، لم تمنع حكومات الغرب الليبراليّ من العبث بالتاريخ، وقلب الحقائق، والسخرية من صرخات أطفال غزّة التي مزّقت شغاف السماوات السبع.
الدبّابة تهزم الإنسان وتهرس عظامه. إسرائيل ليست كياناً صغيراً كما كنا نتوهّم، بل إنّها النبض الذي "يخفق" في أضلاع العالم المنافق. إنها ترسم سياسات هذا الكون الذي ابتلي بسرطان المنفعة، في جانبها المصلحيّ الضيّق والبشع؛ حيث مصلحة إسرائيل تضاهي مصلحة ألمانيا، وربما تتفوّق عليها، ومن يُعادي إسرائيل يعادي الساميّة، ومن أراد أن يتقدّم لنيل الجنسيّة الألمانيّة فعليه، في بعض الولايات، أن يقدّم ولاءه الصريح لإسرائيل، والتوقيع على "تعهّد بالاعتراف بحقّ إسرائيل بالوجود، ونبذ العنف ضد الدولة العبريّة".
وكلما تذكّرت هذا الانحدار الذي وصلت إليه دولة كانت مصدر الإشعاع العلميّ والفلسفيّ والفنيّ في العالم، أتذكر كتاب ممدوح عدوان "حيْوَنة الإنسان"، وفيه يقول: "نحن لا نتعوّد يا أبي إلا إذا مات شيء فينا، وتصوّرْ حجم ما مات فينا حتى تعودنا على كل ما حولنا".
وكنتُ قبل أيّام، بوحي من هذا الشعور بالعار من انتسابي إلى الجنس الإنسانيّ، قد كتبت على حائطي في "فيسبوك":
منذ أن هدر "طوفان الأقصى" وأنا لا أقوى أن أكون شخصاً متوازناً، رغم محاولاتي اللحوحة أن أتخلّص من هذا العبء الذي يُثقل الروح ويرنّحها.
هذه القنطرة، بين ما قبل الطوفان، وبين ما بعده، جعلتني أخفق في استعادة عافية العيش و"لذّته" النزيرة، رغم أنّني من جيل وُلد من قلب الحروب، والنكسات، والنكبات، والهزائم، وفقدان اليقين، والخيبة الممتدّة من الماء إلى الصحراء.
ما يجري في غزّة مُلجم لأيّة فاعليّة تتصل بأيّة جدوى..
لا جدوى. وقد أسرف في يأسي وعدميّتي وأقول: لو كان في العالم ذرّة من خير، أو جدوى، لما جرى ما جرى، ويجري، وسيجري في غزّة.
هل أقول لنا الله؟
لا، لن أقول!