إشكاليَّة العلاقة بين العدالة والقانون
الدكتور موسى الرحامنة
21-06-2024 04:35 PM
يوصف القانون بأنه علم "معياري غائي"؛ أي بمعنى هو المعيار والأسلوب الذي وُجد لتحقيق غاية مشتركة هي العدالة؛ فالعدالةُ؛ تبدو قيداً على كل من المشرع الذي وضع القاعدة القانونية؛ والمكّلف بتنفيذها. والقائم على تطبيقها؛ والسؤال الذي يثير الإشكال هو؛ كيف إذا كان القانون باعتباره وسيلة نحو بلوغ العدالة، قد ظل طريق الصواب وجانبه، فهل نكتفي بالقول بسلامة القانون من ناحية الشرعية الشكلية؟ أم أننا نكون أمام منعرج خطير؛ حين ترتطم هذه الشرعية الشكلية مع الغاية السامية للقانون وهي العدالة. فإذا تم الفصل بين القانون وغايته؛ وتوجيه الاعتبار والاهتمام نحو الشكليات وحسب؛ فسيؤدي ذلك الى حالة من عدم الاستقرار القانوني، نظراً لغياب عدالة القانون، وما ينجم عنها من زعزعة الثقة في نفوس المخاطبين بأحكامه، والمكلفين بتنفيذه، والقائمين على تطبيقه، وما يتبعه من تدهور في فعالية القانون، والالتزام الارادي والطوعي بأحكامه.
وفي إطار الحديث عن غاية القانون؛ يجري التمييز بين غاية آنية قريبة يتوخاها المشرع من سن القانون؛ وبين غاية نهائية وبعيدة ذات طابع قِيَمي ومثالي ترتبط بالنظام القانوني، ومدى استجابة القانون لحاجات المجتمع الإنساني؛ بعيداً عن أي حديث حول قيود القانون وجزاءاته؛ فإذا تبلورت وتحددت الغاية النهائية والمثالية للقانون؛ فلا شك أن الأهداف القريبة والآنية سوف تسير على وحي منه وتعمل في إطاره.
وإذا تم التسليم والقبول بأن الغاية في القانون على الوجه المتقدم هي ضرورة؛ فحينئذ لا بد من الوقوف في وجه سطوة القانون الذي هو وسيلة في يد السلطة، للتقيد بالقيم والاهداف والغايات التي يروم النظام القانوني تحقيقها؛ وفي خضم دوامة الجدل بين المذهب الفردي الذي غالى في حماية الحرية الفردية؛ والمذهب الاجتماعي الذي يعتد بالمساواة ويتجاهل الحريات الفردية لصالح الحياة الاجتماعية؛ ظهرت ثلاثة اتجاهات تحاول الجمع والتقريب بين المذهبين؛ الاول يُرجع هدف القانون الى الأمن؛ والثاني الى الصالح العام؛ واما الثالث وهو الغالب فيرد هدف القانون الى العدالة؛ ولعل هذه القيم الثلاث: الأمن، والصالح العام، والعدالة هي قيم غير متعارضة البتة؛ ولكن المتفحص فيها يجد أن قيمة العدل هي قيمة أولية أساسية؛ ومتطلب يُستعان به لتأمين قيمة الأمن والصالح العام وغيرها من القيم التي تبدو أنها ذات وزن نسبي في مواجهة العدالة، وتختلف من نظام قانوني الى آخر، وقد تستخدم الدولة سلطتها لتتجاوز الصالح العام تحقيقاً للعدالة، ولكن لا يقبل منها أن تهدر العدالة الا في أحوال استثنائية لأجل الاستقرار والصالح العام الذي ينبغي أن يتقيد بالعدالة؛ وأن لا يكون الصالح العام مدخلاً لهيمنة السلطة؛ لا سيما انه ذو مدلول مطاطي؛ وأن الاحتكام له قطعاً سيكون على حساب التضحية بمصالح الافراد؛ من هنا؛ فإن العدالة مدعوة بإلحاح لمعالجة مخلفات معيار الصالح العام المتمثلة بالتضحيات غير المتساوية بين الافراد.
ومن الحقائق العقلية والمثالية الهامة، التي ينبغي على المشرع أن يتقيد بها عند سن القانون، وبما يضمن له الاستقرار والفعالية؛ توخي العدالة التي هي روح القانون؛ فإذا تم سن قانونٍ مخالف للعدالة اعتبره البعض باطلاً ومعدوماً ومتجرداً من وصف القانون؛ بينما يراه آخرون؛ قانون ظالم ولا ينفون عنه صفة القانون؛ احتراماً لشرعيته الشكلية بالرغم من مجافاته للعدالة؛ ويرى هؤلاء ايضاً ان القانون طالما صدر بالشكل الصحيح؛ فهو يكتسب القوة القانونية والعدالة المفترضة دونما حاجة للبحث عن محتواه.
ويرى جانب من الفقه؛ أن القانون يحتمل فرضية العدل؛ كما يحتمل أيضاً فرضية انعدامها؛ فالقانون العادل هو الذي يجمع بين الشرعية الشكلية؛ حين يُسن من قبل ممثلي الشعب؛ ولا يتضمن احكاماً تمييزية؛ ويكون مطابقاً للقواعد والقيم الأخلاقية؛ وإلا وُصِف بأنه ظالم حين لا يحقق العدالة ويجافي القانون الأخلاقي؛ ويتحول الظلم الى قواعد قانونية تلزم المخاطبين بأحكامها؛ وهذه النظرة تجد مثالها في القانون الدولي؛ المتمثل بقانون النقض او الفيتو في مجلس الامن؛ الذي يكرس تميّز الدول الخمس الأعضاء في المجلس ؛ وعلى الصعيد الداخلي؛ تجد القوانين الفاقدة للمصداقية الأخلاقية والعدالة ضالتها؛ في كثير من البلدان التي تَدّعي الديمقراطية، زوراً وبهتاناً وفي مقدمتها إسرائيل؛ التي سنت القوانين التمييزية ضد فلسطينيي الداخل؛ ومنها قانون القومية اليهودي عام 2018؛ ولم يقتصر غياب عدالة النص القانوني على دول الاحتلال والاستعمار فحسب، بل لا يكاد يخلو أي نظام قانوني من غياب العدالة في بعض نصوصه مهما بلغت درجة تطوره واستقراره.
ولكن؛ ماذا لو سنَّ المشرع قانوناً غير عادل؛ فهل يحق للمكلف المخاطب به ان يخالفه ويتمرد عليه؟ وهل للقاضي في مثل هذا الحال وتطبيقاً للعدالة المنشودة أن يُعمل سلطته التقديرية إن دعت الحاجة؟
يرى بعض المفكرين أمثال المهاتما غاندي، ومارتن لوثر كنج، الامتناع عن الخضوع للقانون غير العادل او الظالم؛ وقد اعتبر غاندي ان العصيان المدني من الحقوق التي لا تقبل التقادم؛ وهو ليس دعوة للفوضى؛ بقدر ما هو دعوة لمواجهة شرعنة الظلم واللاعدالة الذي يكرسه القانون غير العادل؛ فإذا تعارض النظام مع العدالة فالعدالة أولى من النظام. وتثير مشروعية العصيان المدني تجاه القانون غير العادل تنازعاً بين مخالفة العدالة ومخالفة القانون المنازَع؛ لأن فعل العصيان لا يكون الا للقانون الذي يخالف العدالة؛ فاذا تم الاعتراف بمثل هذا العصيان؛ فمعنى ذلك ألا يعتبر الفعل المخالف للقانون غير العادل فعلا مخالفا لروح القانون؛ بل فعلا ايجابياً وحضارياً؛ فدفعُ مخالفة العدالة أولى من دفع مخالفة القانون لأن العدالة هي روح القانون.
ويجد عصيان القانون غير العادل مبرره ومسوّغه أيضاً؛ في ضرورة تحصين الافراد بنظام قانوني يوفر لهم الأمن المدني؛ بالقدر الذي يمنعهم من التمرد على الظلم، لا سيما اذا كان القانون ذاته هو مصدر هذا الظلم، فيكون ذلك مدعاة للتمرد؛ ولعل هذا وبمفهوم المخالفة ما يُفهم من نص الفقرة الثالثة من ديباجة الإعلان العالمي لحقوق الانسان؛ التي اعتبرت التمرد رد فعل طبيعي حيال عجز النظام القانوني عن تحقيق الامن المدني بقولها" ولما كان من الضروري ان يتولى القانون حماية حقوق الانسان لكي لا يضطر المرء آخر الامر الى التمرد على الاستبداد والظلم”
واذا كان العصيان المدني غير مقصود بالتجريم في جريمة العصيان المنصوص عليها في قوانين العقوبات؛ فليس من السهل أو المنطق إيجاد أساس قانوني نصي يعترف بالعصيان؛ إلا على نطاق ضيق في بعض النصوص التي تعترف بالحق في عصيان أوامر الرئيس؛ او على الأقل الامتناع عن الملاحقة الجنائية؛ وهذا بحد ذاته لا يرقى الى درجة التأسيس النصي لعدم الامتثال؛ وبالتالي فاذا لم يكن هناك مسوّغ قانوني لعدم الامتثال للقانون غير العادل؛ فمن العبث محاولة البحث في القانون ذاته عن مبرر مخالفته وعدم الانصياع له؛ فمثل هذه المبررات والمسوّغات نجدها في اعتبارات خارجة عن النص؛ ولا تتعلق بشرعية النص المخاطب التي يمكن تداركها في اطار قانوني كالطعن القضائي؛ او الدفع بعدم دستورية مثل هذا النص؛ ولكن عدم الامتثال بالعصيان يكون في مواجهة نص قانوني قد لا يكون معيباً في شرعيته؛ وانما معيباً في آثاره غير العادلة.
ومن الممكن أن تطرأ بعض الظروف التي تجعل من تطبيق النص أمراً قد يغدو غير ملائم، وقد يترتب على تطبيقه مجافاة للعدالة، وحينئذ سيكون لزاماً على القاضي ان يستحضر سلطته التقديرية متجاوزاً مهمته المعهودة والمتمثلة بإنزال حكم النص القانوني على الوقائع المعروضة امامه تطبيقاً للعدالة باعتبارها هدفاً عاماً للقانون ؛ وعلى القاضي أن يراعي العدالة في تفسيره للقانون او في سد النقص او الفراغ الذي يواجه النص القانوني في الواقعة المنظورة امامه وهو بهذا انما يجتهد بإضافة تقديراته الى تقديرات المشرع؛ والقاضي باعتباره احد اهم القائمين على العدالة ولأسباب تتعلق بتفسير النص عليه ان يتحرر من حرفية النص الى روحه اذا ما رأى ان المبالغة والاصطفاف الى جانب حرفية النص ستؤدي الى نتائج غير مقبولة ومن شانها أن تضع عدالة النص على المحك.
واعمالاً للقاعدة الذهبية في التفسير؛ والتي مفادها الاحتكام الى الالفاظ العادية للنص عند تفسيره تجنباً لأي نتائج غير منطقية وغير مقبولة؛ فالقاضي يستبعد التفسيرات التي قد تقود الى نتائج غير عادلة والاحتكام الى العدالة بالخروج عن حرفية النص.
وبالإضافة الى عدالة القاضي في تفسيره للنص، تبرز عدالته في اكمال النقص الذي يعتري النص ايضاً؛ وبالتالي فهو ملزم لتغطية هذا النقص من خلال الاحتكام لقواعد ومبادئ العدالة والانصاف؛ وهذا ما نجد النص عليه في اغلب القوانين الوطنية باعتبار ان مبادئ العدالة والانصاف هي أحد المصادر التي تطبقها المحاكم في حال عدم وجود نص تشريعي؛ ولعل هذا ما نصت عليه المادة (38/2) من النظام الأساسي لمحكمة العدل الدولية والتي أكّدت سلطة المحكمة في الفصل في القضايا المعروضة علبها وفقاً لمبادئ الدالة والانصاف متى وافق اطراف الدعوى على ذلك.
ولكن ما هو موقف القاضي ان حدثت مواجهة بين القانون والعدالة؛ فهل يملك مكنة تصحيح النص او تصحيح الاثار غير العادلة الناجمة عن تطبيقه استجابة لمقتضيات العدالة؛ في الواقع ان انصار المذهب الوضعي ينكرون على القاضي هذه المكنة لأنّ ذلك سينأى بالقاضي عن وظيفته الأساسية المتمثلة بتطبيق النص؛ الى وظيفة أخرى هي التشريع وهي ليست من مهامه؛ لأن ذلك سيخالف مبدأ مستقر وهو مبدأ الفصل بين السلطات؛ ولكن هذه المغالاة وهذا الافراط في الشكلية سيؤدي الى الجمود؛ فالفصل بين السلطات إنما يستهدف الحيلولة دون استبداد او تغول سلطة على أخرى وتحقيق العدالة؛ وبالتالي فأن تصحيح مسار القانون الظالم من لدن القاضي لا شك أنه يصب في ذات الهدف المتوخَّى من مبدا الفصل بين السلطات.
وقد فرّق الفقيه الألماني (غوستاف رادبروخ) بين العدالة الشكلية والعدالة الموضوعية في حال التعارض بين الثقة والقانون؛ فيتم تغليب العدالة الشكلية (النص النافذ) على حد تعبير (رادبروخ) ما لم تتأذّ العدالة الموضوعية بشكل صارخ؛ وبالتالي فهو لم يُعمّم ترجيح العدالة الموضوعية؛ بل اشترط لتجاوز العدالة الشكلية وتجريد القاعدة القانونية من قوتها ان يكون المساس بالعدالة الموضوعية صارخاً.
ويبقى السؤال الجدير بالطرح؛ هل الاحتكام للرقابة على دستورية القوانين من خلال رد النص غير العادل يمكن أن يكون كافيا لا سيما وأنها لا تغطي بشكل دائم الحالات التي تكشف عن ظلم النص ومجانبته للعدالة؛ ثم أن التماس الرقابة الدستورية ليس متاحاً على الوجه المباشر من جهة الاختصاص في كل الأنظمة القانونية؛ وبالتالي قد يبدو انتزاع القاضي لمثل هذا الاختصاص امر أً تستوجبه وتستصوبه العدالة ذاتها؛ وهذا من شأنه أن يشكل ذريعة للخروج على منطوق النص بسبب هذه السلطة الواسعة للقاضي مما يُخشى ان يكون بوابة للتحكم.
إن سلطة القاضي في الاحتكام الى العدالة ينبعي أن تكون خاضعة لمعيار موضوعي منضبط؛ وهو أن يكون مجانبة العدالة في النص القانوني المتوفر بين يدي القاضي لغايات تطبيقه على الواقعة المعروضة؛ قد بلغ حداً صارخاً من الجسامة؛ بحيث يصبح تطبيق منطوق النص يشكل ظلماً بيِّناً للمتقاضي؛ بالاحتكام للمعايير التي تلقى قبولاً من قبل المجتمع؛ بحيث يتفق الجميع ان تطبيق النص يشكل ظلماً واضحاً كعدم المساواة بين الأوضاع المشابهة.
واخيراً؛ ان السلطة التقديرية للقاضي؛ سواء تلك التي منحها المشرع؛ أو تلك التي ينتزعها القاضي انتصاراً العدالة؛ كي لا تكون هذه السلطة وسيلة للتحكم واستبدال ظلم القانون بظلم القاضي؛ ينبغي أن تكون كل الظروف مهيأة ومواتية لها لكي تُجنى ثمارها؛ فلا بد من استقلال جهاز القضاء، وتكوين القضاة وتأهيلهم وتدريبهم والعناية بهم؛ مما يتيح لهم الفرصة والقدرة على حرية الاجتهاد بتقديم العدالة الموضوعية على العدالة الشكلية.