تميّز العمل الحكومي في الإمارات حقيقة أم خيال؟..
يحكى أن في مايو من العام 2024، رُفضت معاملة لأحد المتعاملين في دائرة حكومية ما، في بلد ما! والسبب أنه وقّع على المعاملة بقلم حبر أسود اللون، بينما كانت التعليمات واضحة على الطلب بأن يتم التوقيع بقلم حبر جاف أزرق اللون.
هذا المتعامل يسكن بعيداً عن العاصمة بمسافة 200 كم، ولأنه لم يوقع بحبر أزرق اللون وجاف، عاد كل تلك المسافة ليوقع بذلك القلم، على طلبٍ جديد، وسوف ينهي معاملته إذا حمّلها كثيراً من الدعاء في اليوم التالي!.
الحقيقة، هذا نموذج لإدارة حكومية بيروقراطية ترسخت في أذهاننا منذ ما يقارب من ستة عقود، وما زلنا نستغرب إذا تعاملت معنا الدوائر الحكومية خارج هذا الإطار، فنمتدحها كثيراً، ونشكر الموظف الذي يمد يديه من فوق الكاونتر كلما أنجز لنا معاملة هي من صميم اختصاصه وهي واجب عليه وحق لنا.
ترسخ في أذهاننا وممارساتنا أن الدائرة الحكومية يجب أن تذهب إليها، ولن تأتي هي إليك، وإن تأخرت المعاملة فيجب أن نخلق للدائرة ألف عذر، فهي لم تخطء، وغالباً نضع اللوم على أنفسنا.
كنت أظن أن هذه الإدارة، قد ذهبت وأصبحت تاريخاً، ولكن طالما أن القلم الأزرق الجاف ما زال متطلباً، فهذا يدل على أن تلك الممارسات ما زالت حاضرة.
من هو الأهم: لون قلم الحبر أم المتعامل؟
هنا كانت بداية قصة نجاح حكومة دولة الإمارات، عندما أدركت أن المتعامل أهم من لون قلم الحبر، ولم تتوقف عند الإدراك فقط.. بل انتقلت للتطبيق مباشرة، وبدأ ذلك مبكراً في العام 1997. منذ ذلك الحين والمتعامل مركز اهتمام الحكومة، ليس اهتماماً نظرياً كما هو في كليات الإدارة العامة وإدارة الأعمال، بل اهتمام عملي وواقعي، بدأت تتعرف إلى احتياجات المتعامل بشكل مباشر من خلال دراسة سلوكه، وبشكل مباشر وغير مباشر من خلال التعرف على رأي المتعامل بالخدمات المقدمة، بل ارتفعت عالياً لتبحث عن سعادة المتعامل، وليس مجرد رضاه.
تجربة الإمارات يجب أن تكون مادة أساسية في كليات الإدارة، تجربة عملية نجحت خلال أقل من عشرين عاماً بتحويل الإدارة الحكومية من ضابط شرطة، بشارب غليظ وعينين سوداوين يعلوهما حاجبان مكتنزان، يدبان الرعب في قلب المتعامل، إلى وجه بشوش يبحث عن إسعادك وليس رضاك.
لماذا نجحت الإمارات وحولت الدوائر والجهات الحكومية من كونها شديدة القسوة إلى شخص متسامح يطلب منك أن تنتقده قبل مدحه؟ الحقيقة تكمن في الأسباب التالية:
- القائد: قائد أحس بألم ووجع ذلك الرجل الذي توجب عليه أن يرتحل 200 كم، لأجل لون القلم، وكونه جافاً أم سائلاً، فقدم مصلحة الرجل على أهمية القلم ولونه.
- التغيير: العمليات والإجراءات والقوانين وتثقيف وتدريب الموظف الحكومي، علّم ذلك القائد موظفي الدوائر الحكومية حجم ذلك الرجل وأن له حياة وله أحلام وله أمنيات ومشاغل، وعلّمهم حجم الفائدة التي ستجنيها الحكومة إذا وقع المتعامل بقلم أزرق، والفرق إذا وقع بقلم أسود، فعلّم الموظفين أن الفرق هو جهد إضافي على المتعامل لا يشكل خطراً على زوال الحكومة، فجعله يوقع إلكترونياً وبأي لون أراد.
- المتعامل والمعاملة: غيّر كلمة "معاملة حكومية" إلى "خدمة حكومية"، ووضع مؤشرات أداء وآليات مراقبة، عندما أدرك أن الحكومة سبب وجودها هو خدمة المتعامل، فسماها خدمة حكومية، بمعنى أن الحكومة تخدم المتعامل، وليس معاملة حكومية يكون الطرف الأقوى بها الحكومة، ووضع ميزاناً ليراقب به مدى كون ما تقدمه الحكومة خدمة، وليس معاملة.
- حياة المتعامل: المتعامل له مشاغله وله حياته ومشاغله، فهل يجب أن يزيد العبء عليه بإنجاز المعاملات الحكومية؟ هنا كانت النقطة الفارقة، عندما اقتربت حكومة الإمارات من المتعامل، وأدركت أن حاجته لخدمات حكومية هي أمر عارض وليست كل حياته، أحست بوقته وأهميته، فقدم له خدمات حكومية متميزة لا تأخذ أجزاء أو دقائق من عدد ساعات يومه، وطورت خدماتها بحسب احتياجاته.
بينما في دولة ما، ترفض معاملة أحدهم لأنه لم يوقع على ورقة بقلم حبر أزرق وجاف.. نشتكي في الإمارات لماذا لا يقبلون ملف ورد ويطالبوننا بملف PDF.
التغيير خيار.. وتجربة الإمارات غنية، تفوقت فيها على دول سمت نفسها بدول عظيمة... لكل جامعة، كلية إدارة نوصي بتدريس تجربة الحكومة الإماراتية كمادة ومتطلب إجباري للتخرج.
* الدكتور محمد موسى ملكاوي/ مستشار قانوني وتميز مؤسسي