الجاهة في الاصل، هي مجموعة من الذوات المتمتعين بمكانة اجتماعية مرموقة ومشهود لهم بذلك في محيطهم، تحصلوا على هذه المكانة بفضل عدة صفات، اهمها سداد الرأي والرشد وقوة الحجة، أهلتهم هذه الصفات وغيرها (كالكرم والشجاعة والمروءة) للتحدث وابداء الراي في قضايا اجتماعية معقدة تتطلب خبرتهم وحصافة رايهم للبت بها.
للجاهات دور كبير قديما وحديثا ( لكنه في تناقص مستمر) في حل الكثير من المشاكل الاجتماعية ، وكذلك في اتمام مراسم الزواج، لكن نستثني دورها حاليا في هذا المجال كونه اصبح شكليا فقط ومناسبة لاستعراض القدرات الخطابية لاغير، بعدما اخذ اهالي العروسين على عاتقهم كامل الاجراءات ،ويقتصر دور الجاهة هنا على الاشهار فقط ،بعد ان تم الاتفاق على كافة التفاصيل مسبقا، ولا بد للإشارة الى ان دور الجاهة في الاصل كان يقتصر على حالة رفض العروس او ولي امرها طلب الزواج ، فيكون دور الجاهة الضغط و الاقناع لاتمام الزواج بعد تاكدهم بضعف حجة اهل العروس برفض طلب الزواج، هنا يكون دور الجاهة بتقريب وجهات النظر في سبيل المصلحة العامة لبناء اسرة.
اما الدور الرئيسي للجاهات حاليا فهو إصلاح ذات البين تحت مظلة القضاء العشائري المتوارث، وهو دور معترف به اهليا ورسميا كرديف ومقدمة للقضاء بشقيه النظامي والشرعي( و اذا لم يفيد فلن يضر).
نقول، ان الجاهات تقوم بعمل نبيل وسامي بتقريب وجهات النظر ومحاولة البحث عن الحقيقة وابرازها والتعامل مع الاطراف المعنية من مبداء احقاق الحق لاهله والاقتصاص من المعتدي بصيغة ترضي الاطراف المعنية دون التعدي على الحق العام وايضا دون المساس باصول وحرية التقاضي اذا دعت الحاجة لذلك.
سلبيات افرزها واقع الجاهات حديثا
- اسناد الامر لغير اهله، فقديما كان الباب ضيقا جدا لمرور وتشكيل الجاهات وقد كانت المعايير الدقيقة والصارمة التي اسلفنا ذكرها هي الفيصل بإفراز الشيوخ والوجهاء ، اما الان فقد توسع الباب بشكل كبير سهل المرور منه، واصبحت القائمة كبيرة ولا يوجد قاسم مشترك يضمها خصوصا بعد ان دخل المال كمتطلب ضروري للانتساب لهذه القائمة، فاصبح الحصول على اللقب هو بمقدار البذل المالي الموجه بهذا الخصوص، ونحن هنا لا نعمم فكثير من الاسماء بهذا المجال لا تستطيع الا ان تكن لها كل الاحترام والتبجيل، لكن هذا المجال هو كأي مجال آخر غالبا ما تجد من يقتحمه من الدخلاء والمتطفلين وطالبي الشهرة دون جوهر ومضمون ، وتقتصر مؤهلاتهم لهذا الموضوع على عدة ابيات شعر نبطية وبعض الحكم والقصص المروية من التراث ، اما العباءة فأصبحت رخيصة جدا وفي متناول اليد.
-كثرة دخول هذا المجال من فئات متنوعة، خصوصا ممن يطلقون هم على انفسهم شيوخ ووجهاء بطريقة الامر الواقع ( دون اعتراف الوسط المحيط)، ادى يوما بعد يوم لتعفف النخب والوجهاء والشيوخ الحقيقيين للانخراط بهذا المجال مما افرز واقعا مرتبكا بهذا الصدد جعل هذه الفئة تتصدر المشهد الاجتماعي دون حسيب او رقيب، والله اني اعرف احدهم ويعرفه الجميع لو حضر في اي جاهة ، وبقي صامتا دون ان ينطق بحرف سيصغر الحدث مهما كان عظيما ويذوب، لكنه يأبى على نفسه ان يوضع بقائمة واحدة مع اسماء لها ما لها وعليها ما عليها.
-كثيرا ما تحيد الجاهات عن الواجب الاخلاقي المنوط بها بإحقاق الحق، وذلك بالتعدي على الطرف المظلوم وسلبه حقه،خصوصا اذا كان هذا الطرف ضعيفا ويفتقد للمناصرين ، هذا من ناحية ، من ناحية اخرى ، اذا كان متصدر الجاهة يتمتع بقدرات خطابية عالية تؤهله لغبن هذا الطرف والاستهتار به وبحقه، في سبيل مصلحة عليا ( بنظرة) الا وهي تمرير صلح زائف، ثم ( وقد يكون هو الاهم) بناء امجاد شخصية واهية للجاهة ومتصدرها.
ختاما نقول، برغم كل السلبيات، يبقى فنجان القهوة برمزيته المعروفة يتمتع بدور محوري في انهاء خلاف ما مهما اشتد تعقيده، وتخرج جميع الاطراف راضية ومجبورة الخاطر بمجرد احتسائه على عكس القضاء المدني الذي غالبا ما يخرج احد الاطراف غير راضي من الحكم، ونحن بكل الاحوال ندعو الى سيادة القانون المكتوب كملاذ نهائي.