حين قال الحسين رحمه الله: أضاعوني وأي فتى أضاعوا
د.بكر خازر المجالي
19-06-2024 10:21 AM
تاريخ مرير ملئ بمواقف يجب استجلاؤها، لندرك اننا في زمان تتكرر أحداثه بصور اخرى مختلفة ولكن لا تبتعد ابدا عن الجوهر.
حقبة الملك المغفور له الحسين طيب الله ثراه كانت مريرة بسبب المواقف الصعبة التي واجهها على مدى 47 عاما، من مؤامرات واخفاقات وغدر اغلبه عربيا، وجلالته رحمه الله كان يسعى للعمل العربي الموحد، والتخطيط المشترك وبناء القوة الذاتية العربية، في الوقت الذي تتزايد الطعنات من الاعدقاء، وتفشيل كل مسعى من اجل قوة العرب وما يليق بمركزهم وتاريخهم، وفي كل قمة عربية يكون لجلالته الدور في محاولة الوحدة وتنظيم الصف ومواجهة العدو المشترك، الذي لم يصبح عدوا مشتركا بل انه أضحى الاقرب للبعض من الاردن.
بعد القمة العربية الثالثة بتاريخ 4 تشرين الثاني 1965 كان واضحا مخطط التآمر على الاردن ليس فحسب بل البداية لتمزيق الصف الفلسطيني، وبعد عودة جلالته من هذه القمة خاطب الاردنيين ومما قاله جلالته:
"فلا يجوز قطعاً أن تحاول فئات تدعي العمل من أجل فلسطين، بعد هذا كله، تفريق وحدة هذا البلد المقدسة. فتلك خيانة لا يمكن القبول بها إذ لو تم لهم ما أرادوا لا سمح الله فقد تحقق للصهيونية أهم هدف تسعى إليه. ولذا فنحن مصممون تصميماً أكيداً ونهائياً على مقاومة كل مسعى مقنع من هذا القبيل بنفس الضراوة التي نقفها تجاه الصهيونية وإسرائيل. وفي الوقت الذي تتناثر فيه الأقوال المفتعلة المرتجلة"
لم يمض وقت طويل بعد هذه القمة حتى كانت حرب حزيران 1967، وكانت نتائجها الكارثية على الاردن، وأحدثت خللا سياسيا وديمغرافيا واجتماعيا واقتصاديا، وانشغل العرب بأنفسهم، ولكن نسرد هذا الموقف وفق ما قاله المغفور له الملك الحسين:
""وترجعني الذكريات إلى ذلك الخطاب التاريخي الذي ألقاه سيادة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في التاسع من حزيران عام 1967، حين وقف يقدم حسابه عن المعركة أمام الله وأمام الناس، إذ قال في معرض سرد الحقائق ما يلي بالحرف الواحد وكان ذلك امام الزعماء العرب في قمة الرباط 27 تشرين الثاني 1974:
"ولقد كان هذا هو ما واجهته أيضاً قوات الجيش العربي الأردني التي قاتلت معركة باسلة بقيادة الملك الحسين، الذي أقول للحق والأمانة أنه أتخذ موقفاً ممتازاً، واعترفُ بأن قلبي كان ينزف دماً وأنا أتابع معارك جيشه العربي الباسل في القدس وغيرها من مواقع الضفة الغربية، في ليلة حشد فيها العدو وقواه المتآمرة ما لا يقل عن 400 طائرة للعمل فوق الجبهة الأردنية".
ولن أنسى تلك الرسالة البرقية النبيلة التي أرسلها الي رحمه الله يوم 22 حزيران 1967 وجاء فيها قوله الي:
ولكن هناك مسألة واحدة أريدك أن تعرفها في هذه اللحظات المصيرية وأريدك أن تضعها في اعتبارك دائماً، تلك هي أن الجمهورية العربية المتحدة على استعداد لأن تربط أقدارها ربطا كاملاً ونهائياً بقضية شعب الأردن البطل تحت قيادتك الوطنية التي أثبتت إخلاصها لشعبها في أكثر الظروف صعوبة وخطراً.
والتي أجبته عليها بقولي:
ولسوف يجد سيادة الأخ وشعبه وبلده أنني وشعبي وبلدي لكم ومعكم يداً بيد وقلباً إلى قلب، وروحاً بروح، إلى أن يتحقق لنا ولأمتنا بعون الله كل ما نصبوا إليه من أمل وآمال."
هذا غيض من فيض المواقف الصعبة التي واجهت الحسين يرحمه الله، والاردن يعاني من الحصار المتناوب حينا واغلاق الاجواء حينا اخر والتسلل لتنفيذ عمليات ارهابية بايادي عربية، الى الحد الذي يحتار المرء بتعريف محدد لمن هو العدو، ومع ذلك كان الحسين الحكيم يقول عندما رغم كل الطعان حين نجح في جمع العرب في قمة الوفاق والاتفاق في عمان بتاريخ 11 تشرين الثاني 1987:
"وهكذا كان دائما شأن هذه الأمة: لا يكاد يستبد به الاختلاف، حتى تسرع إلى الوئام والاتفاق، وقد وصفها شاعرها أحسن وصف حين قال:
إذا أحتربت يوماً ففاضت دماؤها تذكرت القربى ففاضت دموعها"
ومع كل ذلك كان الحسين يرحمه الله يأمل أن تعود الامة الى رشدها، وأن تدرك مصالحها، وأن تحدد من هو عدوها، وما الأخطار التي تهددها، وما موقف العرب من القدس وفلسطين، ولكن كان يخشى أن يصل الى مرحلة الضياع، وفي القمة الاستثنائية في بغداد في 28 أيار 1990 خاطب جلالته الامة بقوله
"وإذا كنت قد تحدثت عن بلدي بكل هذا الوضوح وبكل هذه المرارة، فإنني أرجو أن لا يأتي يوم لا أجد وأهلي في الأردن ما نردده على كل شفة رجالاً ونساء، شباباً وأطفالاً سوى صرخة الشاعر العربي الصاعدة من عمق جرحه:
أضاعوني وأي فتى أضاعوا ليوم كريهة وسداد ثغر"
وها نحن بين الضياع والرشاد وربما لا نجد كرسيا حتى بين كراسي المتفرجين، ويكفينا هنا في الاردن هذه المواقف والتضحيات وهذه الشجاعة في زمن تغول القوة واستفحال شر الاعداء، ولكن لا بد من استمرار العمل من اجل الحق وتجنب اتساع رقعة الشر، قبل ضياع كل شيء.