أنا هنا لا أسأل سؤالًا، ولهذا لم أضع علامة السؤال بعد عنوان المقال. بل أحاول أن أقرأ المسافة بين عيد الأضحى الذي تنتهي أيامه اليوم (أعاده الله علينا عليكم ونحن ووطننا وأمّتنا في أحسن حال)، وأعياد أيام زمان. أن أتذكّر هل كان الحَرُّ بمثل هذه القسوة؟ والصلات بين الناس بمثل هذا الجفاء؟ والخوف من بكرة بكلِّ هذا القلق؟ والطبقة المتوسطة بكل هذا الانسحاق؟ إما أن تتسلّق (بأي طريقة) وترتقي إلى الطبقة العليا، وإما أن تفرمها مسنّات الواقع فتذوب بين طيّات الطبقات المعدومة، لا يُسمع أنينها، ولا تُلبّى مطالبها، ولا يَلتفت إليها أحد؛ حتى طلّاب النيابة الذين يحتاجون أصوات هذه الطبقات المسحوقة، يمرّون عليهم، يعدونهم، أو (ينقدونهم)، ثم ما يلبثوا أن يشطبوا أرقام حاجاتهم من ذاكرات خلوياتهم وحواسيبهم.
عيد ما كنّا نخبئه من ملابس جديدة تحت وسادة الأحلام.. وعيد هذه الأيام.. الذي لا يرضى الأولاد فيه إلا بسفرة إلى بلاد السياحة المترفة، والمصاريف المغدقة.. والتهاني المعلبة.. نرسلها عبر الوسائط الجديدة ونكتفي.. بلا أي خصوصية.. بلغة خطاب عامة حتى لا نضطر لإرسال رسائل خاصة لكل صديق، أو قريب، أو جار على حِدَه.
بأي حال يا عيدًا لم يفرح بك أهلنا غرب النهر.. حيث الماء استحال قفرةً من سراب: "أَمّا الأَحِبَّةُ فَالبَيداءُ دونَهُمُ.. فَلَيتَ دونَكَ بيداً دونَها بيدُ".. وحيث الدم يلوّن ساحة اللعب.. ويعطّل تحليق المراجيح.. وتغص به لقمة الأَوَد.
في أضحى أيام زمان.. كان كل أفراد العائلة يقيمون علاقة وطيدة مع الخروف الذي يُسمّن من أجل التضحية به.. ومن بين باقي إخوتي كان يرقّ قلبي له وأرفض مشاهدة ذبحه وقد صار صديقي، فكم من صديق يذبح اليوم صديقه من دون أن يرفّ له جفن، أو يخفق له فؤادُ عطفٍ وإحساسٍ بِعارِ الخيانة والطعن في الظهر والخذلان؟
في عيد أيام زمان كنا نزور أمواتنا قبل أي أحد.. نشاركهم أكل كعك العيد.. نشرب معهم القهوة العربية الأصيلة.. نتبادل معهم أطراف الحديث.. نشعرهم أنهم ما يزالون في قلوبنا ووجداننا وأننا لن ننساهم طالما تحملنا أنفاس حياة.
وكما كانت تقول جداتنا (ساق الله هاتيك الأيام).. أيام البساطة.. وصلة الرحم.. وزيارات العيد.. وعيدياته.. ومشواريه.. والوعد المنتظر من الأهل أن يأخذونا فعلًا إلى الملاهي (مدينة الألعاب الترفيهية).. وتبادل علب "ناشد".. وشراء الحظ من بائعيه.. ومشاركة أتراب الحارة حضور فيلم سينما.. ورؤية العم، أو الخال، أو العمة، أو الخالة، الآتون جميعهم من (غَرْبَة) والمقصود بـ(غَرْبَة) هنا أي غربيّ النهر.. وزيارة القرية بالنسبة لمن ليس لهم أعمام، أو أقارب غَرْبَة.. بعض الجيران كانت العيد بالنسبة لهم هو زيارة مكتب البريد وإجراء اتصال مع ابن مغترب طلبًا للعلم وشهادة الفرج، أو شقيق طالت غيبته، أو أب يسعى في مناكبها قاصدًا باب الكريم من أجل رزق العيال وسُترة الحال.
أيام زمان لم يكن شهداء الحج خارجين على القانون! لا أحد كان يجرؤ على وصفهم بهذا الوصف.. لم تكن ضربات الشمس بكل هذه الضراوة.. ولا أولاد الحارة بكل هذه الشقاوة.. كان الشروق أندى.. والغروب أجزل.. كان المُجير أسير جيرته حتى لو تبيّن أن طالب الجيرة هو قاتل ابنه.
كل عام وأعيادنا عودة إلى سوادينا.. تحريرًا لأراضينا.. مزيدًا من الوئام بيننا والرضا فينا.. كل عام وخطط التنمية أكثر قابلية للتطبيق وأكثر قدرة على حل المعضلات.. كل عام والبحار العالم ومحيطاته لا تئنّ من غزو البلاستيك.. واندثار الأنواع.. كل عام والحيتان أكثر تسامحًا فلا تبلعنا بحجة أنها لا تشبع.. ولا تجرفنا تيارات الهوى وأحزاب المقاصد الضيقة بحجة أنها لا تسمع.. كل عام ونحن أصدق حرصًا على نَبْعَةِ المَنْبَع.. وَدَمْعَةِ المَدْمَع.. لا نخشى في الحق لومةَ لائمٍ ولا نجزع.