صيحة الناس في اليوم الأعظم
محمد حسن التل
15-06-2024 12:36 PM
على عرفات اليوم تتجلى صورة الإسلام ورسالته للعالمين، السماحة والعدل والمساواة، في هذا اليوم يستشعر المسلمون حجم خسارتهم وخيبتهم يوم ابتعدوا عن الطريق الذي أراده الله تعالى لهم.
في مثل هذا اليوم، قبل ألف وأربعمئة عام، أعلن سيد الخلق، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم إرهاصات انتهاء رحلة النبوة، عندما تلى ما أوحي إليه، وهو على عرفات "اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا" وهذه إشارة من الله العظيم أن رحلة المسلمين في هذه الحياة من دون وحي ونبوة قد بدأت وسيواجهون المستقبل وحدهم إما أن يظلوا على الطريق أو يدخلوا في أنفاق التيه..
في هذه الساعات يجتمع الناس على صعيد واحد، يتساوون في كل شيء، في التذلل إلى الله جل جلاله، لا ملك إلا هو، وهو الملك الحق، وهو الذي خلق الناس جميعا، وأرادهم متساويين في حقوقهم وواجباتهم.
اليوم تتجلى صورة المساواة والعدل في الإسلام، لا غني، ولا فقير، ولا سيد ولا عبد، ولا كبير ولا صغير، كل العيون شاهقة إلى ربها.
لم يشرع الله فريضة الحج كعبادة شكلية ترتبط فقط بأفعال وأقوال، وإنما في جوهرها فعل حركي من أهم ما قدمته شريعة الإسلام التصاقا بالهدف الأسمى لرسالة الله إلى خلقه، وهو التوحيد.. والحج في كل عناوينه ومحطاته، هو صيحة البشر للتوحيد ورفض للطاغوت بكل أشكاله في كل زمان ومكان.
في الحج، وأنت ترى الملايين الملبية لربها تقف مندهشا من هذا التمازج تتأمل الملاءات التي تلتصق بها أجساد ملايين الناس، وكأنها الأكفان ، وهنا إشارة إلى حقيقة نهاية كل إنسان في الموت كما تذكر بيوم الحشر.. وعند كل موقف يتوقف المرء أمام مكونات وأسرار المعاني في الحدث والمكان والزمان، فعندما يطوف الحجيج حول الكعبة، فإنهم يتأملون ذات الدورة التي تحكم هذا الفلك، بأجرامه وكواكبه في حركة واحدة منتظمة وتتجلى هنا معاني التوحيد والوحدة، فهذا الكون المحكوم بنظام متقن يتعبد في محراب الله كما يتعبد الإنسان، وهؤلاء البشر الذين يتحركون ذات النطاق حول مركز واحد هو أقرب نقطة في الأرض إلى السماء.
في صورة الوحدة والتساوي في عرفات، هي كما أشرت لا كبير ولا صغير، ولا عظيم ولا حقير، هناك تتحقق المثل العليا التي لم يعرفها الغرب إلا في أدمغة الفلاسفة وبطون الأسفار، فتزول شرور وترتفع الأحقاد، وتعم المساواة ويسود السلام، هناك تظهر المعجزة الباقية، فتطوى الأرض ثم تؤخذ من أطرافها حتى توضع كلها في عرفات، فيعرف المسلم أن وطنه أوسع من أن تحده على الأرض جبال أو بحار، أو تمزقه ألوان.
في مثل هذا اليوم، وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم قواعد التعامل بين المسلمين وقواعد المجتمع المسلم إلى أن يلقوا ربهم.. "أيها الناس إن دماءكم وأعراضكم حرام عليكم كحرمة شهركم هذا، وأنكم ستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم وقد بلغت، فمن كان عنده أمانة فليؤدها إلى من ائتمنه عليها، وأن كل ربا موضوع، ولكن لكم رؤوس أموالكم، لا تظلمون ولا تظلمون، قضى الله أن لا ربا، وأن ربا عباس بن عبد المطلب موضوع كله، وأن كل دم كان في الجاهلية موضوع، وأن أول دماءكم دماء ربيعة ابن الحارث بن عبد المطلب"، وكان مسترضع في بني ليث فقتلته هذيل. وهنا اشارة نبوية إلى ضرورة أن يكون السلم بين المسلمين دائما على كل المستويات الاقتصادية في اشارته إلى تحريم الربا لأن اثاره مدمرة للناس وأموالهم كذلك الاجتماعية في إشارة إلى التسامح والعفو الذي يجب أن يسود المجتمع المسلم.
إن الحج إشارة من الله عز وجل وتكليف لعباده حتى يستشعرون تلك الصورة العظيمة عندما يجتمعون على اختلاف أجناسهم وأديانهم وألوانهم بين يدي الله العظيم، لتؤتى كل نفس ما عملت. اليوم يتباهى رب العزة والجلال بعباده، حيث يقول في الحديث القدسي: "هؤلاء عبادي جاءوني شعث من كل فج عميق، يرجون رحمتي ومغفرتي، فإن كانت ذنوبهم كعدد الرمل لغفرتها، أفيضوا عبادي مغفورا لكم ومن شفعتم فيه.
يقول المفكر الإسلامي رحمه الله علي الطنطاوي في "عرفات: هناك تتنفس الإنسانية التي خنقها دخان البارود وعلامات الحدود، وسيد ومسيود وعبد ومعبود وتحيا في عرفات حيث لا كبير ولا صغير ،" اليوم لامجال لكل صور الشرك التي أغرقت العالم وأظلمته.
ويكون الشيطان الرجيم الذي جاء رجمه كأحد أهم أركان الحج خسيس ذليل مدحور وهو يرقب الحشود الضخمة قد اجتمعت على التوحيد وتلبية ربها في يوم الإيمان والتوبة الكبير.
يأتي الحج هذا العام والأمة في أسوأ حالها ضعفا وتفرقا وانكسارا وهزيمة تنهشها الأمم من كل أطرافها ..يأتي الحج هذا العام وفلسطين وأهلها يذبحون ويشردون ويواجهون الموت وحدهم لا نصير لهم إلا الله تعالى وسترتفع ملاين الأكف في عرفات داعية لهم بالنصر والفرج.."حتى يقول الرسول والذين معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب" هذا وعد الله ولا يخلف وعده.