وطن كالقلب بين النهر والبحر
عبد الأمير الركابي*
06-08-2007 03:00 AM
خص المفكر العراقي الكبير الأستاذ عبد الأمير الركابي ، "عمون" ، بمقالته الرائعة حول الكاتب الأردني الراحل غالب هلسا ، بمناسبة منح ذكراه جائزة الدولة التقديرية .. وفيما يلي نصها :
******** (( ان رجال الامبراطورية الجدد هم اولئك الذين يؤمنون ببدايات طازجة ، بفصول جديدة ، وصفحات جديدة ، انني لأتابع مصارعة القصة القديمة ، آملا أن تجلو لي، قبل ان تنتهي، اعتقادي بانها جديرة بتكلف المشقة )) ـ دجي . ام . كوتزي ـ في انتظار البرابره ـ
(( كان الصمت من الأمر ، وعنه ، هو العرف السائد يومها . بعض تلك الصموتات كانت تكسر، وبعضها تُصان من قبل مؤلفين عاشوا بستراتيجيات الحراسة الشرطية وفيها ، اما مايثير اهتمامي فهو استراتيجيات كسر ذلك الصمت )) ـ توني موريسون : اللعب في الظلام ـ
ماوراء الموت ، بل ارادوا حتما التعاطي مع الحاضر والحاضرين ، الدولة ....ياللعجب !!!... ـ في الأردن فلقد ضمنوا القرار نصا يقول : "لقد كان عضوا في الحزب الشوعي الاردني " وزادوا فقالوا : "وقد توفي في المنفى" وهذا ليس اقل من اعتراف علني ورسمي بتيار ، واعتذار عن زمن طويل من الملاحقة والقمع ، رغبة في قتل الشجرة الحمراء ، وذلك يكفي حتى يكون شطر اليسار الاردني ، الوفي لغالب وذكراه ، قد تحسس معنى التحية الموجهه اليه ، وكانه سمع من يقول له"انت منذ اليوم " ، حاضر ، ومعترف لك وبك : تقدم .
لست في عمان ، ومن بعيد ، يكون على المرء وهو يسمع خبرا من هذا القبيل ان ينصت لاعماقه ويسأل ، هل يتحول اليسار الى سلعه ، لقد نم موقف الدولة الاردنيه والحالة هذه ، عن ذكاء غير عادي ، ولاح في الافق مايمكن اعتباره نوعا من تقصد محسوب غالبا مايثير الشك ، فالاشياء التي تبعث لتكرم باثر رجعي ، لامدخل لها افضل من الجماليات ذات الدلالة ، واذا كان الامر كذلك ، فمن الطبيعي والعادل ، ان نفتش داخل مؤسسات الدولة الاردنيه ، عن الشخص الذي يتمتع بكل هذه الحساسيه الذكيه، بحيث تسنى له اختلاق مزاج ، وتداخل بقوة ، وبلا "مغثة" ، مع روح الجو اليساري والثقافي الابداعي الاردني ، فمنحه حلما كانه نسمة صيف ، من تلك التي تحسسها "غالب هلسا" في امسيات بغداد قديما ، حين كتب "الضحك " اولى رواياته التي لاتنسى ، وأول تصوير وتجسيد حي ، لمدينة العذابات يوم كانت حية ، ومتوثبه ، وقانعه بمصيرها الجنوني ، بغداد الخمسينات ، التي من حسن الحظ انه عاد اليها في الثمانينات ، ليكتب عن وجوهها الثلاث (المقصود روايته "ثلاثة وجوه لبغداد " طبعا ) .
في انتخابات رابطة الكتاب ، قبل صدور قرار تكريم غالب بايام ، اجترح اليساريون الفرحون انفسهم ، ماثرة لم تكن الدولة حاضرة فيها ، فازوا في انتخابات رابطة الكتاب الاردنيين ، فوزا باهرا ، بعد ثلاث دورات متتاليه ، ظل تجمع آخر يتلاقفها ويحقق الفوز ، فوز "قائمة القدس" بدا وكانه مفاجأة لمن حققوه ، بالضبط مثل مفاجأة تكريم الدولة لغالب ، بعض الاصدقاء من معسكر الفائزين ، اتصلوا بي من الاردن والفرحة تنط من اصواتهم ، فتذكرت زمنا قديما ، كتب لي فيه احد
رفاق غالب هلسا واصدقاؤه ، فرحون : لم يتلقوا، حسب، اعترافا بواحد من فرسانهم ومبدعيهم الكبار ، بل وصلهم ايضا نوع فريد من "الاعتراف" او من "اعادة الاعتبار" ، فمن اصدروا قرار منح ذكرى غالب هلسا ، جائزة الدولة التقديريةـ ، عبروا الى الماضلين وانا في السجن وهو خارجه فقال : " انا مثل من تمطر الدنيا على راسه دنانيرهل يمكن ان يحدث هذا لثوري بحيث تصبح اعطيات الحياة اكبر من قدرته على الاحاطه " واليوم ليس هو الزمن الذي يتلقى اليسار فيه "امطارا" ، الا في الاردن ، والى "معين" مدينة غالب هلسا ، اكتشف هؤلاء ، ان الطريق لابد ان ياخذهم ، فالمكان الذي يرمز لوجود ومنشا غالب ، قد يكون هو الاقدر على استيعاب الاعطيات المباغتة ، التي تاتي تباعا ، انهم يتوجهون الى مجال "مقفل" ومنسي منذ سنين .."بيت غالب " يريدون احياءه ، وتحويله الى "متحف" ، فكانهم يقولون ان المتاحف هي ايضا شواهد قادرة على النطق .
لماذا ينبغي لغالب هلسا ان يكرم "اردنيا" ؟ ، الذين سيتابعون مسيرة غالب وخارطة ابداعه ، عليهم ان يكتشفوا المبررات او "الاعذار" ، التي تجعل من المحتم على الدولة الاردنيه ، تكريم الرجل ، باعتباره احد خالقيها ، وموجدي ركائزها غير المتوقعين ، وغير المنتظرين اطلاقا ، في "الضحك" يرسم غالب هلسا منذ انطلاقته الاولى ، نطاقا "اردنيا" هو حبز يساري لوطنيه اردنيه غيرمتفق على ملامح قدسيتها الضائعه ، لقد ظل "الاردن " انجازا مشوبا بقهر "القدسيات " المحيطة والقريبة والمتداخلة معه ، والقاهرة لوجوده المستقل الواضح ، (القدسيه الفلسطينيه خصوصا ) ، وافضل ماكان يتحقق على هذا الصعيد ، دفع ثمنه مضاعفا من الناحية العمليه ، ولم تتوازن مع ذلك ، نتائجه الظاهرة للملأ، مع ضخامة الجهد المبذول من اجله ، وعمل الملك "حسين" الجبارعلى طوله وضخامته ، ظل يمتزج بمفهوم محلي ، لايخلو من "الضيق " ، وبحاجه الى ازمان من التوضيحات ومن التاريخ ، قبل ان يتم الفصل بينه وبين الغيوم التي تكسف شمسه ، كلما ارادت ، او حاولت ان تطل ، والشيء الوحيد الذي يمكن ان يبرر مثل هذا المسار ، هو ابعد من مجرد اشتغال لمروحة المصادفات كما يقول لنين ، ففي قلب القضية التي يمكن تسميتها ب"القضية الوطنيه الاردنيه " ، كان هنالك ثمن ينبغي دفعه ، وصبر كبير يجب التحلي به ، فالدول تبنى في كثير من الاحوال ،لابل هي تبني عادة ، عبر كوارث ومصاعب هائله ، المهم في كل تجربة من هذا القبيل ، هو اذا كانت البلاد التي تطمح لوضع اسمها بين خارطة الحاضرين ، تملك قدرا ما من الحيوية المبدعه ، ومن الاصرار الذي يتيح لها معانقة التاريخ والمستقبل ، أو لا .
بين النيل وارض الرافدين ، يخطو غالب في "الضحك" ليرسم حدودا وسيرة وطنيه اردنيه ، وحين تقرا "الضحك" وتنظر الى بغداد والقاهرة ، لايمكن لك الا ان تعنى بهذا القدر من الانتماء الابداعي للمكان ، الذي هو من الناحيه الافتراضية ، ليس مكان الكاتب ، لقد خلق لبغداد صورة حميمه وحيه ، لم يستطع رسمها حتى اكبر كتاب الرواية العراقية ، امثال التكرلي وغائب طعمه فرمان ، ولم اجد تلك النغمة الحميمه التي ميزت غالب ، الا في رواية كتبها فائزالزبيدي بعنوان "السدرة تزهر مرتين" ـ هو الاخر يساري وشيوعي ـ ، ففي هذا العمل ، يلتصق زفت الارض صيفا ، باقدام المارة ، فنشم رائحته في الكلمات ، وتلتهب الافاق فتعطي الاشجار الصامته سرها للنهرالخالد ، ولدى غالب ، تنهض بغداد ، وروائح الطرشي والرشاد ، والأكل ، والبنات ، مشحونه ، مصطرعة مع نفسها ، وحيه . هل رسم غالب وقتها حدوده ، ام حدود بغداد والقاهرة ؟ لندع الاحاديات ، المستمدة من منظورات وتخطيطات الفكرالنمطي والتنميطي السائد منذ عقود طويله ، فغالب يقفز منذ ذلك الوقت ، بعيدا عن المشرحة القديمه ، لقد عاش بكل جوارحه فلسطينيا في بيروت ، وغادر ليمتحن لحظة مابعد الاجتياح الاسرائيلي ، مع جمع المطرودين من "دولة الفاكهاني" الى دمشق ، فكان في قلب بلاده ورسولها بين الضائغين ، وكتب عن بغداد مرة اخرى ، وعن فلسطين ولبنان ، مواصلا امانته واعترافه الذي لم يفهم في حينه ، لماكان يراه كينونته ، و "حدوده " كاردني ، فالانهاروالبحر بحسب غالب ، هي حدود ونطاق التلة التي هي الاردن ، هي قلبها الذي ينبض داخلها بحيويه وصدق ، يزاحمان حتى حب اهلها لها.
يقرا غالب هلسا ، كاحد اهم مؤسسي اسطورة الاردن ،التي لاتشبهها كما لا تشبهه هو اية اسطورة اخرى ، ولقد كان قادرا لوحده على ان يبدأ تشكيل اساس "قدسيته" من تمخضات هذا العالم ، جاعلا من بلاده ، "هضبة حدودها وقلبها البحروالانهار" وفقط بهذا المعنى "الوطني الحميم " والطامح لان يغدو قلب محيطه ، يمكن ان نفهم ابداعية غالب ، ونستوعب عظمة ماقد انجزه قبل ان نميط اللثام عن سره ، وعن سر هذا "اليسار" الوطني ، الذي انتهى الى حفرصورة للبلاد ، لم يكن لاحد ان يرسمها سواه ، وبغض النظر عن "الجهود العملية" الكبرى البارعه والمضنيه ، لرجال اردنيين كثر اصروا على تكريس ملامح الاردن ، اليوم ينحو الاردن مع اليسار ، وذكرى غالب هلسا ، منحى آخر، يفتح الباب في زمن تكسر الوطنيات ، الى نمو وطنيه ، لهاقلب ابعد من كل الطوائف والجهات ، فالمدى الذي يوصل بغداد بالقاهرة بكل ساحل الشام وفلسطين ، هو سيرة حية لرجل ومبدع ومنتم عرف اين يضع خطاه . بينما هو يرسم حدود وطنه ويوغل فيصر على غرسها في الافاق ، وبعد هذا كله فليس سوى الركون الى قوة "الحس" ، يمكن ان يفسر لماذا تم الاقدام على هذه الخطوة ، وكأن من قرروها ارادوا الدفاع عن الذات ، باطلاق روح ، اصبحت الان اساسا للوجود وللبقاء وسط العاصفة .
يسار يشكل صورة واساس قدسية "وطنيه" !!!مفقودة ، ومعاشة وسط الشكوك ، هذا ممكن كما هو ماثل امامنا اليوم ، وبمرور الزمن ، هانحن نعثرعلى جوهرة مفقوده ، ويتدخل التاريخ ليجعل من الرؤية اليسارية المبدعه ، مجال تحقق وطني لبلاد كانت تبحث بصمت عن صورتها ، وهذا المنطق هو ماكان يفهم من مسار غالب هلسا الابداعي والشخصي ، بغض النظر عن انتمائة او عن سياسات الجهه التي ينتمي اليها ، وابدع في رحابها . فبهذا الاكتشاف "الوطني " المبدع لغالب هلسا ، يفهم ايضا بعض ماتركه او ماحققه اليسار في المنطقة ، خارج ترسيمات عمل الاحزاب والسياسيه المباشره ، ومع لحظة التهيؤلدخول الطور الثاني من تاريخ اليسار في المنطقة والعالم ، قد يكون من الفريد ان يدرك اليساريون الاردنيون منجزات تاريخهم الابداعي والمجتمعي ، كما تتمثل في عمل هذا الوطني الكبير، والمرء ليخشى ان تكون "الدولة" قد فعلت بحسها ك"دولة" ، هي الاقرب الى هموم "الوجود" واثمانه ، والضغوط التي تتقاذفه ، مالن يفعله اليسار الاردني ، اذا هو لم يتبين المعنى الكبير ، المستخلص من انجاز غالب وموقف الدولة الاخير منه كتاسيس وكمدى، لخطى يجب ان لاتتوقف عن اعادة حفر الصورة والمعنى الذي اكتشفه غالب واصر على تكريسه ، بما تمثله في خياله ووجدانه من حدود وافاق ارنيه زرعها وسط حديقة آمن بانها تزهر بين الانهار والبحروفي قلبها . الابداع الكبيرينتظر ويحفز ابداعا راهنا ، والدولة هنا قد فعلت شيئا لايعد حسب العرف اليساري ، من اختصاصها ، ولامن صفاتها .
ثمة في الافق اليساري مفاجآت مذهله ، كانت غائبه عن الابصار، قد تصل الى حد الاجتماع يوما من الايام في الافق المنظور لوضع (البيان المساواتي /الشيوعي الثاني ) تجديدا لعهد انقضى ، منذ صدور البيان الاول عام 1847 باسم (ماركس وانجلز) ، فقد تغير العالم كثيرا جدا ، ويكاد مركز الفعل النظري والعملي لليسار العالمي ، ينتقل الى المنطقة العربيه ، وفي افق كهذا ، على اليسار الحالي ان يضع ماضيه ومنجزه الاول ، امام مجهر منظورآخر، في مقدمته ظاهرة غالب ، باعتباره انجازا تاريخيا وتطلع شعب ، ومحقق افق وطنيه وعروبه ، ونهضة مفقوده ، يثبت اليوم ان اليسار ، الذي يتجدد وينقلب على ذاته ، هو حامل رايتها .
* كاتب عراقي مقيم في باريس