لعقدين من الزمن تقريباً ونحن نتحدث عن المال السياسي ، أو ما اصطلح على تسميته بالمال الأسود ، ونشخّصه كأهم معوّق حقيقي للديمقراطية الحقيقية ، ونتبرأ منه جميعاً، ونلعنه جميعاً حتّى الذين يوظّفونه يلعنوه ويزعمون الطهر منه كونه مستقرٌّ في العرف الإنساني أنه رجس من عمل السماسرة ودهاقنة النخاسة ، يتنافى مع كلّ القيم والمبادئ الشريفة ، وهو مُجرّمٌ بحكم القانون . وهذا الفعل مشينٌ للبائع والمشتري على حدٍّ سواء.
ولا شكّ بأن الخلل التشريعي دائماً هو ما يهيء البيئة والظروف التي تُساعد من يعتقدون بأن كلّ الأمور خاضعة للتسليع والتطويع ، ويجد هؤلاء ضالّتهم في حاجات الناس وجهلهم وإحباطهم وانعدام الثقة في العملية الديمقراطية ومدخلاتها ومخرجاتها وآلياتها الإجرائية.
وكنّا نأمل أن تفضي الإرادة السياسية العليا في التحديث السياسي إلى أن يتم التعاطي معها بوعيٍ ومسؤولية وحكمة من قبل من أخذوا على عاتقهم ترجمة هذه الإرادة والرغبة المُسبَّبَة بضرورة تجاوز كلّ المعوقات التي تحول دون جسر الهوّة بين الرسمي والشعبي ، وتعالج الإختلالات في التشريعات التي ولّدت ظروفاً وممارسات تتنافى مع الأعراف الديمقراطية الحديثة . وتفضي من خلال ذلك إلى الإنخراط في المشاركة الفاعلة في العملية السياسية المطلوبة لتجويد التمثيل وتوسيع القواعد ، وتنهي أو تقلّص حالة الحرد والشك والريبة التي توسّعت كثيراً ، وظهرت آثارها السلبية في كلّ المناحي والشؤون الحياتية.
ولكن وبكل أسف فمع بداية الإختبار لقانوني الإنتخاب والأحزاب من خلال الممارسة الإنتخابية القادمة ويجري الإعداد والإستعداد لها ، بل ومباشرة مرحلة الترشح وتشكيل القوائم المحلية والحزبية ، فقد بدا واضحاً العوار التشريعي الذي فاقم من استخدام ما يُسمى بالمال السياسي كعاملٍ حاسم وأساسي في تشكيل القوائم والتمهيد للفرز والنتائج التي ستتمخّض عن شراء مقاعد مجلس النواب بشكلٍ أو بآخر ، وأكثر وأكبر المتورطين في ذلك بعض أمناء الأحزاب العامين الذين قدّموا أنفسهم للجميع بأنهم الرّواد للمرحلة السياسية الحزبية والحكومات البرلمانية بشعارات فضفاضة تنادي بالعدالة والمساواة والشفافية والنزاهة.
ما عاد خافياً بأن المقاعد الحزبية في بعض الأحزاب وربما نتجاوز لفظة البعض إلى ما هو أوسع منها، أصبحت تُباع بالمزاد ، ولعلّ ذلك إن أحسنّا الظن باستبعاد فكرة الإستثمار فيها ، فهي الوسيلة المتاحة لفض الإشتباك بين الطامحين والطامعين ، الساعين لفرص الوصول إلى قبة البرلمان ، وهذا بالطبع واقع لا يمكن إنكاره ناشئٌ عن هشاشة القناعات الحزبية وأنها لا تستند إلى قناعات حقيقية بفكرة الأحزاب والتحزّب والتي لم تنشأ نشأةً طبيعية متجذّرة ومقنعة ، ومن يُكابر في قول غير ذلك فستبدّد المرحلة المقبلة الظنون ، وستكون الحجّة على من يقول بنجاح التجربة أو من يقول بفشلها.
وكما أنه في القوائم الحزبية هناك من يدفع فإن هناك من يقبض وهم الذين سيحلّون في المراكز المتأخرة عن خانات الأمل والتوقع في النجاح والتي لا يصعب تقديرها ، وإن كان بعض القيادات الحزبية يسوّقون قناعاتٍ بحجم الفوز في الانتخابات لا يستند إلى حسابات تتعلق بالناخبين والمؤازرين ولا شكّ بأن ذلك يُعدّ مراهقةً سياسية.
وليست القوائم الانتخابية المحلية بأحسن حالاً من القوائم الانتخابية الحزبية ، فلم يعد ممكناً تشكيل قائمةٍ محليّة بغير حشواتٍ مسبقة الدفع . والمزادات مضروبةٌ في كلّ الدوائر والأسعار متفاوتة والعرض للحشوات يتجاوز الطلب مما قد يؤدي إلى انخفاض ملموس في الأسعار ، ولكن الأسعار تتفاوت كونها تتناسب مع الفروق الفردية للحشوات .
فأي مجلس نيابيّ قادم سيثق الناس به ، وهم الأدرى والأعلم بملابسات وصول أعضائه !!!
وأي علاقة ستربط بين النائب مع القاعدة الشعبية في حال أن النائب قد اشترى مقعده بماله !!!!