انخفاض تحويلات العاملين .. ايجابيات وسلبيات
يوسف منصور
31-05-2024 09:14 AM
كانت التحويلات من العمالة الأردنية المغتربة (270,000 عامل مغترب أو عشرة بالمائة من القوة العاملة في الأردن) مصدرًا رئيسيًا للإيرادات من العملات الأجنبية وخاصة من الدول النفطية في الخليج، كما أنها كانت سببا رئيسيا لتأسيس الصناعة المصرفية في الأردن حيث تلقى الأردن ما يقارب 92مليار دولار من حوالات الافراد منذ عام 2000، ويحتل الأردن حاليًا المرتبة 36 عالميًا والرابعة عربياً (بعد مصر، ولبنان، والمغرب) من حيث نسبة التحويلات من الخارج إلى الناتج المحلي الإجمالي. ويلاحظ أن البلدان التي تحتل مرتبة أعلى من الأردن هي تقريبًا جميع البلدان النامية منخفضة الدخل، وبعضها فقير للغاية.
انخفضت التحويلات كنسبة مئوية من الناتج المحلي الإجمالي على مدى العقدين الماضيين الأمر الذي ينبغي على الأقل بان يدفع البعض إلى اتخاذ بعض الإجراءات السياسية. دعونا نُلقي نظرة على البيانات والارقام الرسمية المتوفرة. في عام 1972، أي قبل عام من حرب تشرين الأول (أكتوبر)، كانت نسبة تحويلات المغتربين إلى الناتج المحلي الإجمالي 2.6 في المائة، بعد حرب تشرين الأول (أكتوبر) وتضّاعف أسعار النفط أربع مرات، بدأت نسبة الحوالات في الارتفاع بشكل متسارع، حيث وصلت إلى 21.2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 1975 و 24 في المائة في عام 1976.
وبعد عام 1976، بدأت نسبة الحوالات في التراجع بسبب نمو الاقتصاد الأردني (الناتج المحلي الإجمالي) بشكل غير مسبوق لتصل الى 18.4 في المائة في عام 1980، ثم عادت للارتفاع مرة أخرى، لتصل إلى 23.6 في المائة في عام 1982 ثم ارتفعت النسبة 24.9 في المائة في عام 1984. كان سبب هذا الارتفاع عودة الكثير من المغتربين نتيجة حصول هبوط في اسعار النفط لحصول تخمة في عرض النفط عالميا، كما شهدت السنوات الكارثية 1988 و 1989 زيادة في النسبة المئوية لانخفاض الناتج المحلي الإجمالي بنسبة أعلى من نسبة زيادة التحويلات على اساس سنوي.
بعد عام 1989، وكما هو متوقع عندما يكون الناس قلقين بشأن الوجهة التي يرسلون الأموال إليها، بدأت التحويلات في الانخفاض كنسبة مئوية من الناتج واستمرت في الانخفاض حتى عام 1991. وفي عام 1992، قفزت التحويلات إلى 15.9 في المائة مع عودة الأردنيين من دول الخليج بسبب غزو الكويت ومكالبه.
استمرت التحويلات في الارتفاع بعد ذلك، حيث استمر الأردنيون العائدون في تلقي تعويضات عن خسائرهم وبدأ البعض بالعودة إلى دول خليجية أخرى رحبت بهم. واستمر هذا الاتجاه حتى عام 1994 عندما انخفضت نسبة الحوالات بشكل طفيف، ثم بلغت ذروتها في عام 1996 عند 22.8 في المائة بعد توقيع اتفاقية السلام.
جاءت الذروة التالية (22.4 في المائة) في عام 2000، وبعد ذلك بدأت النسبة تنخفض بشكل مطرد. وبدأت موجة جديدة من التراجع في نسب التحويلات الشخصية وبشكل متزايد منذ عام 2014 من 17.3 في المائة إلى 8.9 في المائة في عام 2020، وأصبحت 10.1% في عام 2022.
لاحظ أن الأرقام لا تبين هنا صافي الحوالات الشخصية (تلك التي تُحوّل للأردن من الخارج مطروحا منها ما يتم تحويله للخارج من قبل الأفراد) حيث تصبح النسبة 9% للعام 2022 بعد احتساب الحوالات الى الخارج من الافراد المقيمين في الأردن.
لماذا تراجعت هذه النسب في السنوات الأخيرة؟ الأسباب متعددة: سمحت بعض دول الخليج للمغتربين بشراء العقارات هناك بدفعات أولى متدنية أو حتى بدونها وبأسعار فائدة قليلة جدا مما أدى إلى انتزاع الأموال من سوق العقارات الأردني. أيضا، أصبحت القوة العاملة الأردنية هناك تجد منافسة جادة من قبل عمالة البلدان الأخرى، مما يعني انحسار الشواغر والضغط على الأجور نتيجة المنافسة وارتفاع كفاءات أسواق العمل هناك؛ كما اتجه المغتربون الأردنيون الى تملك العقارات في بلدان تمنح الجنسية الثانية لمالكي العقارات فيها حيث أصبح الحصول على جنسية ثانية اتجاهاً عالمياً في السنوات الأخيرة، وخاصة باتجاه الدول الأوروبية أو تلك الدول ذات جوازات سفر تمكنهم من التنقل دون تأشيرات السفر أو المعيقات لأاكبر عدد ممكن من دول العالم. أيضا، ومع تطور الثورة الرابعة (الانترنت لكل الأشياء) لم تعد العقارات هي الخيار الوحيد (الأسهم والعملات المشفرة أخرى، على سبيل المثال) لاستثمار المدخرات.
داخلياً أدى ضعف التخطيط والاستقرار التشريعي وخاصة التنظيمي الى تقليص الطلب على العقارات كارتفاع الفوائد مما أدى الى انخفاض الطلب على العقارات محلياً لارتفاع أسعارها بالمحصلة الكلية. كما أن طفرة البناء نتيجة فترة النمو الذهبية التي نتجت عن لجوء أثرياء العراق وما تمخض عنها من ضخ 17 مليار دولار في الاقتصاد الأردني ذهب غالبيتها الى سوق العقارات خلال الفترة 2004-2008 أدت الى وجود فائض في العقارات وبأسعار لا تتماشى مع التراجع في الطلب والدخل في الأردن. أيضاً، قد تكون عوائد التنظيم المرتفعة، (والتي تقرها بعض البلديات بسبب شح مواردها الآنية) لم تعد تتماشى مع تراجع الدخل الحقيقي في الأردن احد أكبر الأسباب التي تهجر الاستثمارات العقارية، وهي موضوع يحتاج الى مراجعة ودراسة اقتصادية شاملة بحد ذاته.
ومع ذلك، لا ينبغي للمرء أن يأسف كثيراً لتضاؤل تدفق التحويلات فبعد كل شيء، ومن الناحية التنموية المحضة، تعتبر التحويلات ثمن تافه لنزيف العقول الذي تسبب فيها. إن مغادرة الأردني للعمل في مكان آخر هو أشبه باقتلاع شجرة من مزرعة وإرسالها إلى أخرى لتنتج هناك، وليفقد المزارع الذي صدرها الجهد الذي بذله في زراعة الشجرة مقابل قروش قليلة يكتسبها من بيعها للمزرعة المجاورة التي تجني ثمار هذا الجهد لتزداد ثراء.
كما أن غالبية الحوالات تذهب إما لسوق العقارات أو للاستهلاك لبضائع وسلع لا ينتجها الأردن مما يؤدي الى خروج جزء لا يستهان به منها من الاقتصاد الأردني لاقتصادات الدول المصدرة لهذه السلع. كما أدى بعضها الى المزيد من البطالة وتشوهات كثيرة في سوق العمل كأن ينتظر المرء الإعالة من قبل قريب مغترب، او فيزا للذهاب خارج البلد فلا يقبل بأي وظيفة موجودة في بلده، أو أن يطالب بأجور تفوق المتاح في سوق العمل الأردني، وغيرها.
ولا يمكن إلقاء لوم رحيل العقول على المغتربين، فالسبب الرئيسي للرحيل هو عدم القدرة على العثور على عمل ملائم في وطنها والقرارات التي تبدو وكأنها بلا منطق أو خبرة. ولأنه لا يجوز أبدا حظر تصدير الرأسمال البشري، فالإجابة الوحيدة الممكنة والمناسبة هي خلق وظائف في الوطن وتطوير طرق ووسائل لتحفيز وتعظيم القيمة المضافة في الأردن. بعبارة أخرى، هناك حاجة ماسة للتنمية، وينبغي أن تكون على رأس جدول الأعمال. حان الوقت للبدء بالتفكير في الحلول وتنفيذها.