في كل عامٍ و مع اقتراب الصيف و الاعلان عن الوقت الذي يقام به مهرجان جرش ، تخرج الاصوات التي تطالب بمنعه بحجة الفضيلة و الرذيلة ، أو أي عذر يسيطر على الاجواء ، أحيانا داخليّ و أحيانا خارجي ، فالمهم و الأهم لدى تلك الفئة وضع حواجز أمامه ، فعلى مدرجات جرش تُسفك الدماء "كما ترى تلك الفئة".

هذا العام كانت غزة هي العذر المناسب الذي تُدشّن بسببها عرائض الاعتراض و المطالبة بالالغاء و المنع ، أمّا واقعيا فغزة لا تطلب منّا سوى الدعم ، هي التي تعلم أن الجرح طال أمده لن تطالب الغير بحمل الجرح على اجسادهم ، بل تنادي بحياة طبيعية لها و للمعمورة.

منذ السابع من اكتوبر ، قامت هذه المهرجانات أو ستقام قريبا:

مهرجانات بدار الاوبيرا المصرية
مهرجان سوق واقف القطري
مهرجان اعياد بيروت
موسم الرياض/السعودية
مهرجان قرطاج/تونس
مهرجانات في اسطنبول
مهرجان هلا فبراير/الكويت
مهرجانات قصر الامارات
مهرجان الرباط/المغرب
و غيرها الكثير من الحفلات و الامسيات ...

كلّ هذه الشعوب و الدول ، تساند غزة بما استطاعت ، لكنها تفصل (السياحة و الاقتصاد) عن السياسة ، أما نحن في الأردن فتلك الفئة ذاتها التي تهاجم جرش كل عام تعرّج على غزة و تأخذ بمصيبتها ذريعة لكي تطالب بمنعه أو تأجيله ، و برجوع سريع إلى الذاكرة ، هل مرّ مهرجان جرش منذ عدة سنوات دون مطالبات تلك الفئة؟

و السؤال الأهم و الأقوى ، هل بُثت يوما مقاطع للزنى على المدرجات؟ هل انتشرنت العواجل من المهرجان؟ هل شبّ حريق راح ضحيته الالاف الناس من أجل الموسيقى؟ هل ضرب اعصار مدينة جرش أو هزّ أعمدتها زلزالٌ مدمر عشية المهرجان؟

أنتم يا من تطالبون بالمنع و الالغاء ، لم لا تطالبون باغلاق اماكن أخرى أهدرت طاقات الاردنيين؟ لما لم تغلقوا أوكار فساد نخرت جوف الوطن ، ألهذه الدرجة باتت الموسيقى كارثة عليكم؟ ليس بعيدا عليكم أن تعلنوا فيروز سبب الحوادث الصباحية؟ و أم كلثوم تحمل وزر المسائية منها...

من لا يريد الذهاب ببساطة لا يذهب ، و لا يمكن ابدا تبرير ذلك بالرقص على جثث الشهداء ، و بأنّ الجار عندما تحلّ عنده مصيبة على جاره الوقوف معه ، هذا صحيح لكن عندما تطول مصيبة ذلك الجار ، يُعطي عذرا لجاره بأنْ يمارس حياته بشكل طبيعي أو شبه طبيعي، خصوصا إن كان يدعمه و يسانده.

أنا لم احضر مهرجان جرش مطلقا ، لكنّي ضد تمييع هوية وطن ، فنحن نقف مع فلسطين و غيرها من البلدان المنكوبة الجريحة دائما ، لكن للأردن تفاصيله و اقتصاده و سياحته، فمن يريد الحداد الدائم يستطيع و من يريد الترويح عن النفس يستطيع... لا يمكن الحجر على الناس و خياراتهم... فكثير من الناس قد تذهب لكي تستنشق الهواء و الموسيقى بعد شهور من الحزن و الغبن على حالة الاشقاء ، فأين الضرر ، في حين لو لوحقت تلك الاصوات لوجدناها ترقص في الخفاء والعلن...

ثم علينا أن نعي بأنّ للموسيقى صورة تُصنع عبر السنين و ترسم صورة الاوطان ، فكم جميل أن يلازم الاردن مسيرة سميرة توفيق؟ و كم نتذكّر لبنان بالرحابنة و فيروز ، و مصر بصوت أم كلثوم ، و الجزائر بوردة و العراق بكاظم و سوريا بأسمهان
و تدمر و السعودية بمحمد عبده، هل تستكثروا على الاردن صورة جميلة يكوّنها جرش؟

بالنسبة لي أي ايقاف لمهرجان جرش ، هو اعدام له و لمستقبل عريض عنوانه السياحة، فجارتنا الكبرى السعودية أدركت ذلك منذ عدة سنوات و راحت تستثمر بهذا المجال ، فانظروا لها الآن بعيدا عن غليان القلوب الحاقدة ، كيف ارتبط اسمها بالابهار و الحداثة ، أما هنا فيراد لنا اعدام مهرجان جرش لكي نعود بالوطن لعصور الظلام..