مسار القنطرة النبطية .. (صور)
عبدالرحيم العرجان
27-05-2024 11:17 AM
في كل مرة نزور فها البترا تتجدد الدهشة بأجدادنا العرب الأنباط ومملكتهم التي كانت قائمة على نظام عصري متكامل بعيد النظر في شتى نواحي الحياة، أدهش كل من تعمق في تفاصيله وعكف على دراسته.
فارس الموسه ابن المكان .
لم نكن لنهتدي للمكان والغائب عن عدسات الإعلام والخارطة السياحية إلا بفضل ما نشرة صديقنا فارس الموسه البدول على صفحته على وسائل التواصل الإجتماعي من خلال تجواله في مدينته الرقيم وما حولها والمشرف عليها من مطل منزله بأم صيحون ،ومن خلال عمله ضمن كوادر المحمية الأثرية. لننتظر بشوق إجازة نهاية الأسبوع لمرافقته بزيارة المنطقة والنهل من هذا الجمال ومآنسته لرحلتنا كما اعتاد أن يرشدنا على مدار السنوات للكثير من المواقع الغائبة عن البال والذكر هناك.
شعاب قيس ..
ابتدأ مسارنا من بين القباب الصخرية الغنية بالكوارتز نزولا بشق حمل إسما من أجمل الأسماء العربية بمعنى القياس والقساوة وقد يكون سببا في إطلاق هذا الإسم على الوادي لصعوبته أو نسبة لمن سكنه من السالفين.
ومع ارتفاع درجات الحرارة بذاك اليوم لم يسعفنا فيه غير نسائم الهواء المنعش التي تأتينا من قلب الشعاب المفضي للغرب وكثرة الأماكن الظليلة المتكونة من الإرتفاع الشاهق لأطراف الجبال ووفرة العرعر المتشبث بجذوره بين الصخور والجلاميد وبعض الكينا والرتم، أما نبات الدفلى فكان يشكل حوارية بين ألوان أزهاره وبين تدرجات الصخور بتوليفة لونية طبيعية آية في الجمال وآسرة للعين، لم ننفك فيه من التقاط أجمل الصور في كل زاوية فيه.
قنوات الماء ..
ومنذ بداية الطريق السهلة التي غابت عنها آثار أقدام العابرين ترافقنا مع مسار قناة الماء المنقوبة في الصخر منذ ألفي عام بمعاول أجدادنا الأذكياء وبإشراف هندسي فائق الدقة بمراعاتهم فيها درجة ميلان معينة للمحافظة على سرعة ثابتة لجريان المياة وسلاسة إنسيابه لتتناقل بمسارها بين طرفي الوادي لجر المياه العذبة لسقاية أهل المدينة وزوارها من التجار وأهل الحكمة، حين كانوا يتوافدون للشرب من العيون وقد عرفنا منها عين موسى وأم سراب وعين راق والسيغ ودبدة وما تجمع من ماء الشتاء في الآبار المحفورة في الصخر وما زال بعضها يروي عطش المارين من هناك.
وللمحافظة على نقاء المياه جعلوا في مسارها أحواضا للتخلص من الأتربة والشوائب فتعمل عمل المصافي، وبعض المنافذ للتوزيع لقنوات فرعية كما طليت بعض أجزائها بالجس والملاط الأملس الصلب حتى لا تتسرب المياه بمراحل الصخر الرملي ولحمايتها من النحت والتآكل.
وبعد سلسلة من الأدراج والمحافظة على كينونتها وصلنا لممر تحت صخرة شبيهة بصخرة ممر طريق الدير، وقد سبقنا مرشدنا فارس للإشارة لنقش مخفي على جانبها، وقد أثار تساؤلنا عن معناه ،وتركنا الأمر لأساتذتنا أصحاب الفكر والمعرفة للقيام بتحليله، أما الجانب الآخر منها فكان على ما يبدو لأداء الصلوات وللعبادة حين سادت اللات كآلهة للخصب والزروع والأمطار وكان كبير آلهتهم ذو الشرى، وضمن المحيط هناك حوض شبيه بالحوض الدائري المقام في أعلى موقع المذبح وهذا ما يؤكد قدسية المكان حسب معتقدهم.
القنطرة .
القنطرة الوحيدة التي ما زالت قائمة من نظام الحصائد المائي النبطي القديم ولم تتأثر حجارتها المتداخلة بالعوامل الجوية أو يهوي قوسها في الوادي نتيجة ما ضرب المدينة من زلازل متعاقبة على مدى ألفي عام، لا بل بقى محافظا على شكل قوسه المنحني التام والمكون من 22 حجرا شذبت بعناية وإتقان هندسي روعي فيه أصول العمارة التي ما زالت مبادئها معتمدة حتى اليوم، إن كل ما تحتاجه هذه القنطرة الفريدة والتي تعد أيقونة أثريه في منطقتنا إلى الحماية والترميم والشبيهة بقوس مدخل السيق الذي وثقه ديفيد روبرتس برسوماته عام 1838م وسقط على أثر الزلزال.
جبنا هناك طويلا وتم توثيق القنطرة من جميع جوانبها وكيف ارتفعت 20 مترا بين صدعي الطود، واختيارهم للمكان الأضيق منه، وتفحصنا مداميكها التسعة القائمة من كلا الجانبين بحجارة شبه متساوية في الحجم والإرتفاع، ولم نكتفِ بالمشهد من الأعلى بل نزلنا للشق الضيق وانتهزنا ما لدينا من وقت لنعود بحصيلة رائعة من الصور، سنتيحها لمن يرغب وللإستفادة منها في البحث والدراسة ، ومقال يسلط الضوء على القنطرة ويثير شغف الزيارة للمكان ، لعل دربنا يكون يوما مسارا سياحيا معتمدا، يطيل من وقت الزيارة وفترة بقاء السائح في المنطقة، ومعرفا بموقع جديد نسعى للمحافظة عليه كما حمته الطبيعة على مدى مئات السنين .
استكملنا الطريق حيث تأخذنا القناة لمشارف وادي المطاحة من شمالي طور (خبثا ) حيث الجهة المقابلة لعرف الديك، وهي النقطة الأخفض من المسار بارتفاع 870 مترا عن سطح البحر وفارق ما يقارب ال 180 متر عن نقطة البداية.
تابعنا اتجاه القناة نحو قلب المدينة مرورا فوق الواجهات الملكية المتتالية وصولا للمحكمة حيث اختفت معالمها عنا، ودوما في نهاية كل مسار ومن أمام الخزنة كان لنا استراحة مع فنجان قهوة لنتأمل عظمة المكان وحديث مع أبناء المنطقة اللذين يرحبون بك من دون سابق معرفة.
شارفنا على انتهاء المسار بمرورنا بمركز الزوار متممين 12 كلم وقد وثقنا فيه من أجمل وأروع المشاهدات ، مثمنين إرشاد صديقنا فارس الموسه البدول ودوره الكبير بالتعريف والنشر والتوثيق، ومن غير المستبعد أن تكون واحدة من أقدم القناطر الفردية بالعالم إن لم تكن أقدمها.