مستقبل الطاقة النووية
الأستاذ الدكتور خليفه ابوسليم
23-05-2024 12:58 PM
لقد بدأت الطاقة النووية بالمساهمة في إنتاج الطاقة الكهربائية على المستوى التجاري في ستينات القرن الماضي، وأخذت بالزيادة المضطردة حتى وصلت الى قمة الإنتاج في نهايات القرن ولازالت تقريبا تحافظ على نفس مستوى الإنتاج. فقد ولدت الطاقة النووية اكثرمن 2500 ملياركيلواط-ساعة في عام 2023 بواسطة 440 مفاعل عامله في 31 دولة، لتشكل حوالي 10% من الطاقة الكهربائية الكلية المولّدة على مستوى العالم.
وللمقارنة على أساس سنوي، تبلغ النسبة المئوية لوسائل توليد الطاقة حوالي 36% من الفحم، 23% من الغازالطبيعي، 26% من الطاقة المتجددة، 5% من النفط والمصادر الأخرى. على ذلك، ندرك ان الطاقة النووية تسهم بشكل فعّال في خليط الطاقة الكهربائية العالمي. لكن عند دراسة واستشراف مستقبل الطاقة النووية لابد من الإشارة الى مجموعة من الحقائق والإتجاهات في وسائل توليد الطاقة الكهربائية المتاحة حاليا والمتوقعة في المستقبل، منها:
- لازالت الطاقة النووية في بعض الدول منافسة للمصادر الأخرى للطاقة الكهربائية باستثناء المصادرالأحفورية المنخفضة التكاليف، وستستمر حتى انتهاء الأعمار التشغيلية للمفاعلات القائمة. لابد من الإشارة هنا الى ان تقنية استكشاف وتطوير وسائل إستخراج الطاقة الأحفورية قد طرأعليها تحسن كبير في السنوات القليلة الماضية ممايزيد من العمرالمتوقع لمصادرالطاقة الأحفورية في خليط الطاقة العالمي.
- اقتصاديات الطاقة النووية يجب ان تشمل جميع المراحل من بداية التخطيط للإستخدام الى التمويل والبناء والتشغيل وتأمين الوقود والترخيص والصيانة والتشغيل والإخراج من الخدمة وإدارة الوقود المستنفذ. على جميع الأحوال، لازال بند تكاليف بناء وتشغيل محطات الطاقة لايلقى الإهتمام الكافي، وفي كل الحالات فإنه يقدّم للمستثمر او للحكومة بأقل من التكاليف الحقيقية على ارض الواقع.
- تشكل تكلفة الوقود النووي جزءا بسيطا من التكلفة الكلية للتوليد علماً ان التكاليف الإنشائية للمحطات النووية أعلى بكثير من محطات التوليد الأحفورية. كذلك تعتبر تكاليف الأنظمة النووية العاملة في المحطات منخفضة مقارنة بأنظمة محطات الطاقة المتجددة.
- حيث ان مشاريع الطاقة النووية طويلة المدى، وتتميز منشآتها بالتكلفة الإنشائية والرأسمالية العالية والتي تدفع مقدما في جزء كبير منها، وقد يضاف الى ذلك تكاليف فوائد قروض التمويل والتي لاتقل عن 5-7% من المبلغ المقترض، فإن توفير حوافز لهذا النوع من الإستثمار يشكل تحديا بالغ الصعوبة. وقد يضاف الى تكاليف الإنشاء المنظورة مخاطر أخرى منها التأخير في عملية البناء التي تزيد من صعوبة تأمين التمويل اللازم لإتمامه. لا بد من الإشارة هنا الى ان التعقيدات الفنية المصاحبة للمشروع تزيد من نسبة المخاطر خلال عملية البناء من حيث احتمالية التأخير ونفاذ السيولة.
- الإستثمار في محطات الطاقة النووية هو من نوع الإستثمارات بعيدة المدى والذي يمتد لعشرات السنوات منها حوالي خمسة عشرعاماً الأولى من عمر المحطة بدون عائد مالي حقيقي حيث تمتاز المشاريع النووية بفترات بناء طويلة لاتقل عن 5 سنوات (الخبرة العملية المتراكمة اثبتت ان هذه الفترة قد تمتد الى سنوات اكثر بكثير).
- فترة استعادة رأسمال المال وتحقيق ارباح ممتدة على عشرات السنوات (متوسط العمر التشغيلي للمفاعل حوالي ثمانين سنة منها حوالي 25 سنة لاستعادة رأس المال). هذا النمط من التشغيل لايساعد في دخول رؤوس اموال كبيرة لبطء دوران رأس المال، علما أن هناك نماذج متعددة للتمويل منها القروض والمساهمة في الملكية.
- لابد من التفكير منذ البداية ووضع خطة إخراج المفاعل من الخدمة بعد انتهاء العمر التشغيلي، والذي يأخذ مدة لاتقل عن 15 سنة. اما تكلفة الإخراج فيعبرعنها بنسبة مئوية من تكلفة الإنشاء ولا تقل عن 2%. عادة يتم انشاء صندوق خاص بتكلفة الإخراج من الخدمة منذ بداية العمل في المحطة .
- ايضا لابد من التفكير بكيفية إدارة الفضلات الناتجة عن التشغيل وتكلفة تخزين الوقود المستنفذ لمئات آلاف السنين. ولتأكيد اهمية ذلك، لابد من الإشارة الى ان تكاليف تخزين الوقود المستنفذ والمخلفات النووية الناتجة من المفاعلات المئة العاملة في الولايات المتحدة الأمريكية حوالي 500 مليون دولار سنويا.
- تمتاز المدة اللازمة لاكتمال جميع المراحل المرتبطة بالمحطة النووية بالطول وهي في المتوسط حوالي 14 سنة (بلغت 10-19 سنة لجميع محطات الطاقة التي بنيت). تشمل هذه المدة جميع المراحل منذ بداية التخطيط، واختيارالموقع المناسب، والحصول على التراخيص القانونية للموقع، وتأمين التمويل، والبناء والتركيب والتشغيل وتوقيع اتفاقيات شراء الطاقة والربط مع الشبكة الكهربائية (ان كانت الشبكة مناسبة للأحمال الكهربائية الداخلة من المحطة النووية) والحصول على الرخصة الدائمة. وتعتبر هذه المدة طويلة مقارنة مع محطات الأنواع الأخرى والتي لاتتجاوز الخمس سنوات.
- ايضا لابد من الإشارة الى ان تكاليف البناء والتشغيل التي تقدم للمستثمراوللحكومة تعتمد على تكاليف الموديلات السابقة حيث يتم عكس تلك المعطيات على المتوقعة للمحطات الجديدة، وهذا لن يقدم بأي حال تقييم حقيقي وواقعي لتكاليف الإنشاء لأن المحطات العاملة حاليا قد بنيت في زمن كان فيه سوق الطاقة مستقراً من حيث الطلب والسعر. اما في الوقت الحالي ومع دخول متغيرات كثيرة ومنها السعر والأنواع الجديدة من الطاقة الداخلة اوالتي يمكن ان تدخل قريبا، والعوامل السياسية والتنظيمية المصاحبة والتي تمتاز بعدم الإستقرار، فلا يمكن التنبؤ من منظور واقعي بتكاليف ومستقبل الإستثمار في محطات الطاقة النووية.
- كلفة التوليد الإجمالية للكهرباء باستخدام الطاقة النووية أعلى بكثير منها باستخدام الطاقة المتجددة حيث تتراوح كلفة توليد الكيلوواط-ساعة كهرباء بين 12.9 و 19.8 سنت امريكي متأثراً بعوامل منها سعر الفائدة على القروض. بينما تبلغ كلفة التوليد حوالي 4.3 سنت باستخدام طاقة الرياح و 4.1 سنت باستخدام الطاقة الشمسية. علما بأن التكلفة اعلاه لاتشمل تكلفة تجهيز البنية التحتية المناسبة من انشاء شبكة طرق ذات حمولات محورية عالية تستطيع تحمل الأوزان الكبيرة لمكونات المفاعل. وكذلك لابد من الأخذ بعين الإعتبار تكاليف تطويرالشبكة الكهربائية لتستطيع حمل الطاقة التي تدخلها المحطة النووية للشبكة. وفي حال وقوع حوادث نووية يجب ان يضاف للتكلفة العمليات المترتبة على الحوادث وهي مبالغ ضخمة. وللدلالة على ذلك، فقد بلغت تكاليف السيطرة على وإزالة آثارونتائج حادث فوكوشيما حوالي نصف تريليون دولار.
- الأمان النووي بمايعنيه من آثار مجتمعية. فهناك اخطار تشغيلية منها انصهار قلب المفاعل حيث ان حوالي 1.5% من محطات الطاقة العاملة قد حدث بها الإنصهار بدرجة معينة. من هذه الحوادث ما أدى الى نتائج كارثية عابرة للحدود مثل حادث تشيرنوبل-1986، وحادث فوكوشيما-2011. ومنها ماخلّف آثاراً مدمرة مثل حادث ثري مايلز ايلاند-1979 وحادث سانت لوران-1980. علما ان أي حادث نووي يمكن ان يأتي بنتائج عكسية عالمياً على استخدام وانتشار الطاقة النووية بغض النظر عن جميع الإيجابيات المعروفة. صحيح ان التصاميم الحديثة للمفاعلات تعمل على تفادى مثل هذه المشكلات، لكن ذلك غير مثبت لغاية الآن.
- الأخطار الصحية المصاحبة للعاملين في المحطات النووية خاصة الإصابة بسرطان الرئة للعاملين في مناجم تعدين اليورانيوم لاحتواء هذه المناجم على غاز الرادون، احد نظائر سلسلة الإنحلال الإشعاعي. فقد اثبتت الدراسات ان حوالي 10% من العاملين في المناجم قد اصيبوا بسرطان الرئة، وهذه النسبة تمثل حوالي ستة اضعاف نسبة سرطان الرئة للمدخنين. هذه الأمراض يمكن تفاديها في محطات الطاقة المتجددة لاختلاف متطلبات العمل.
-التلوث البيئي حيث لايوجد مفهوم الطاقة النظيفة اوالإنبعاثات الكربونية الصفرية في الطاقة النووية. على سبيل المثال تعدين وتخصيب وتصنيع اليورانيوم، وهو عمل ضروري ومستمر للطاقة النووية، يصاحبه انبعاثات كربونية. كذلك فإن العمل في المحطات الجديدة، التي تحتاج الى 14 سنة في المتوسط لتصبح منتجة، تطلق حوالي 78-178 غرام لكل كيلوواط-ساعة من الكهرباء، حيث تعتبر هذه النسبة مرتفعة جداً مقارنة مع إنبعاثات محطات الطاقة المتجددة والتي تحتاج لزمن قصير للبناء والتشغيل مقارنة بالمحطات النووية. كذلك لابد من الأخذ بعين الإعتبار مشكلة كميات الحرارة الضخمة الناتجة وبخار الماء المصاحب لتشغيل المحطة النووية.
-مشاكل الفضلات النووية المتراكمة من المحطات النووية، ومنها الوقود النووي المستنفذ عالي الإشعاعية، والذي تتجاوز أعماره مئات الآلاف من السنوات. هذه الفضلات يجب ادارتها بشكل مناسب بحيث لا تؤثر في مصادر المياه والمنتجات النباتية والحيوانية والبيئة والإنسان.
- الحد من التسلح النووي يشكل احد العوائق امام التخطيط لاستخدام الطاقة النووية، خاصة للدول غير الحائزة على الأسلحة النووية. حيث تستطيع تلك الدول وبشكل التفافي بناء منشآت تخصيب اواستخلاص اليورانيوم والبلوتونيوم من الوقود المستفذ. كذلك، تزيد المفاعلات الصغيرة من خطر التسلح من عدة وجوه. فعملية تحميل الوقود في المفاعل الصغير اكثر تكراراً من المفاعل الكبيرمما يزيد من خطر اساءة استخدام الوقود المستنفذ. ايضاً لابد من الإشارة الى ان المفاعلات الصغيرة عادة ما تبنى في مناطق نائية وغير مأهولة مما يزيد من خطر الإعتداء عليها. على ان ادخال واستخدام المفاعلات الصغيرة او متوسطة القدرة، إن ثبت جدواها، يمكن ان يحل مشكلة المناطق البعيدة عن الشبكات الكهربائية .
- لابد من الأخذ بعين الإعتبار التطور السريع في إدخال الأنواع الأخرى من الطاقة وفي الأسعار المنافسة والمتناقصة بشكل سريع لهذه الأنواع، في الوقت الذي تتميز فيه تكاليف الطاقة النووية بالثبات إن لم تأخذ اتجاهاً متزايداً. ومن الأمثلة على تنافسية السعر، فقد كانت تكاليف توليد الطاقة الكهربائية الشمسية حوالي 35 سنت لكل كيلوواط-ساعة في بدايات العقد الماضي، اما في الوقت الحاضر فهي بحدود 4 سنت. ولابد من المقارنة بين العمر التشغيلي للمحطة الشمسية والذي يبلغ حوالي ثلث المحطة النووية مما يعني ان الغبن الذي يمكن ان يصيب عقود الطاقة المتجددة يمكن التخلص منه بشكل اسرع من المحطات النووية. اما المفاعلات النووية الصغيرة، والتي يوجد منها نماذج متعددة، فإنها لازالت غير مدخلة بشكل تجاري، مما يعني ان خصائصها على ارض الواقع من حيث التنافسية السعرية والأمور الأخرى غير معروفة لغاية الآن.
- لابد من الإشارة الى ان الطاقة المتجددة لاتعتبر من الحمل الأساس على عكس الطاقة النووية والأحفورية، إلّا ان تطوّر وسائل التخزين وزيادة الكفاءة تنبئ بأن الطاقة المتجددة ستصبح قريباً من وسائل التزويد الكهربائي الدائم. يعززهذا الإعتقاد الزيادة المضطردة في مساهمة الطاقة المتجددة خلال السنوات الأخيرة وكذلك مبادرة تحقيق أهداف اتفاقية باريس للتغير المناخي، والتي تعمل على تحقيق التحول الى استخدام الطاقة المتجددة بنسبة 100% بحلول عام 2040، والعمل الدولي الدؤوب على ذلك.
- التطور المثير والواعد في توليد الطاقة الإندماجية والتي من المتوقع ان تدخل بشكل تجاري بحلول منتصف هذا القرن مما سيوفّر مصدراً كبيراً للطاقة النظيفة لمئات السنين، الأمر الذي سيؤثر بشكل سلبي على مصادر الطاقة الأخرى. لابد من الإشارة الى ان إدخال الطاقة الإندماجية يحيّد الخوف من التسلح النووي.
- لابد من الإشارة الى ان المفاعلات النووية قيد التخطيط يقع معظمها في الدول النامية، وان الدول المتقدمة صناعياَ قد تجاوزت بطريقة او بأخرى خيار الإعتماد على الطاقة النووية مما قد يشكل ضغوطاً متعددة من هذه الدول على الدول التي تخطط لإدخال الطاقة النووية، ومنها ما يتعلق بالتزوّد بالوقود النووي على سبيل المثال .
للأسباب السابقة وغيرها لابد من التفكير مليَاً والتخطيط بشكل جدَي قبل اتخاذ القرار حول تبني وسائل توليد الطاقة الكهربائية بشكل عام والنووية بشكل خاص.
* الأستاذ الدكتور خليفة ابوسليم/الجامعة الأردنية.