رحم الله نذير رشيد، كان نسيجا وحده.. عاش حياة كلها (مرجلة)
لأنه احب ما كتبته عنه في كتاب (ال … عمان) فإنني اعيد نشره اليوم بمناسبة وفاته، بنصيحة من الزميل الصديق المحب لابي جعفر ولي الاستاذ ناصر قمش…
يرحمك الله ايها الرجل المقدام
نذير رشيد لم يخلع صاحبه
مُذْ أن قدمني له محمود الكايد في "الرأي" ذات ليل تمانيني، جاء لنشر مقالة له، واحتفى به "الكايد"، احتفاء مهيباً قد لا يكون من نافل الكتابة القول، أنني كنت اتعرف على مقادير الرجال، وادوارهم عبر ما يبديه "ذاك الماركسي" الذي فاتها فدوى لـ عيون عبد الناصر وهو في سجن "الجفر"، بعد ردح من سنين مكث بها ممسكاً على ولعه بالشيوعية كفكر دائم، حتى طلقها طلاق بينونه صغرى، إذ ظل فيه الكثير من ملامحها حتى مات..
محمود الكايد... كان رجلاً "وازناً " للرجال.
كان مقدم نذير رشيد لمكتبه في تلك الليلة كأنه في ليلة عرس..
أحببت زرقة عيونه وارتواء بشرته، بالحمرة الطافحة، وشماغه الذي يركيه على رأسه بفوضى عارمة، ليعطيك انطباعاً أن الشماغ ذاك يتشرف بأن حط على رأسه...
وأذهلتني عفويته في رمي جمرات حديثه،..
خارج نطاق أي اطار أبو جعفر يأتيك زخة من سباب ، تحس أنها بعض "عسل" بكيفية تعامل الرجل عن اوصافه.
في عتمة تلك الليلة...
كنا كالعادة "سهارى" مع "المعلم" كان حينذاك المعلم هو " أبو عزمي" محمود الكايد، فكل مرحلة، تتشكل عاداتها وفق ما اعتاده " المعلم" ...
ومن متلازمة "الصحافة والمعلم" السّهر، والعشاء المتأخر.
على عادتي الدائمة، سواء مع المعلم الاكبر.. أستاذي الأول في الصحافة... جمعة حماد أو مع "محمود الكايد"، كنت استحلي التتلمذ بالمعرفة الأنثروبولوجيا، والاستغراق في الأسئلة، فيستمتع المسؤول ، فيحكي وأخزن معارفهم فـ (استنير).
في ليلة نذير رشيد..
وكان لـ محمود الكايد اشارات لا يخطئها الصحاب ولا الأتباع والاحباب، حين يباشر الاسترخاء الليلي، ويبدأ البوح اللذيذ... يرخي ربطة عنقه، ثم يلقي بها في مهاوى السهر..
بعدها، يصدح صوته بأغنيته الملازمة لسعادته وتكون لـ سعاد محمد ، ويتدرج في التبشير بإدراكه النشوة القصوى في السهر، حين يصدح بأغنية " للحاج أمين الحسيني" آبان الثورة الفلسطينية في هبة البراق، وينهي محزوناً "من سجن عكا طلعت جنازة" ، ويشتم الظروف ، وبعض الناس ويهدأ...
قمة النباهة والفائدة، أن تجد لنفسك في زحمة الفرح والحزن والصبابة والسهر خيط وصل مع "أبو العزم" ، أو تنفرد به على المغسلة، أو في زاوية معتمة لتسأله عما يعتمل في نفسك من دهشة السؤال " فيجيبك ببوح الطفل يغني في المهد صبياً" .
كانت تلك اللحظات ، هي المسؤولة عن صناعة أجلّ علاقة واحبّها إلى القلب مع رجل.. فتح لي افاقا رحبة وما ضيّق علينا بشيء في حياتنا قط...
قد أدعي أن تلك اللحظات الدافئة، أضحت له حاجة وضرورة ، يبوح بما يريد أن يلقنه لـ تلميذ استبشر فيه الخير... وكذلك تشكل وقتاً مستقطعاً يمده بالثقة وبحلاوة "الأستاذية"، ليعود إلى السهرة مع زملائه هو (حيث كان "محمود" يحرص دوماً أن يجمع بين ربعه) (مروان الحمود، فارس النابلسي، رجائي المعشر، واحد اخوته أحمد، أو عبد الحميد) ، واحيانا ليس بصورة دائمة علي أبو الراغب ، وابراهيم أبو الراغب ، أكثر ، كان يعتقد أن ابراهيم اكثر نباهة من علي .. كذلك، مجموعة الراي ، عصابة الرأي، أو المكتب السياسي للرأي ، سمه ما شئت، وكان في قلب القلب، في مجموعة الراي "يوسف علان وعبد الوهاب زغيلات، خالد محادين ، وبدر عبد الحق ،وأنا "...
وإن كان الضيف، على وزن ، نايف حواتمة ، أو عوني حجازي ، أو رياض نجيب الريس، قد تتسع الدائرة فيحضر ، ذاك الجواد، صاحب النكتة العذبة والحضور البهي كانت "الاورا" التي يتمتع بها سليمان عرار ، بدءاً من ملاعبته لشاربيه ، بطريقته الحنونة، وانتهاء باهتزاز جسده ، لشدة الضحك، على النكتة ، التي هو يسوغها، تخلب ألباب الحاضرين، اما أن كان الضيف عبد الباري عطوان، فالقصة لدى أبو العزم تمسي شيئاً اخر... كان عبد الباري لدى أبو العزم أحد أفراحه المعلنة ...
ليلة نذير رشيد...
تسربت إلى وعي أبو العزم، أسأله، تلك الشخصية التي تشعشع روحها كرماً وحدّة لكن بصفاء واثق...
ما الذي شدني اليه، لذلك الشهم نذير، لأدخل إلى عالمه عبر قراءة محمود الكايد التي كانت عندي وستبقى ، قراءة زرقاء اليمامة.
ثمة في الذاكرة قصة لابد من الادلاء بها في هذا المقام...
حين جئت عمان أول مرة، كنت في صحبة عمي " أبو الحكم"، ذاك الفلاح المثابر ، الذي جمع من عناصر الزعامة المحلية ما فاض عن حاجة البلدة ... سواء بهندامه المتأنق أو بمثابرته على الوعي، وبمنطقه الجميل.
تناولنا طعام الغداء، على مائدة الدكتور رفعت عودة بالشميساني الذي هو عميد عشيرة آل سلامة وقتذاك دون منازع، ورغم انه عمي بالنسب (أبو الحكم) كان على صداقة وحب لا يلين، تجاه ابن عمه د. رفعت إلا أن عمي بالنسب كان يضمر دوماً رغبة ومثابرة في الولاء للدولة الأردنية، واطاراتها كافة، وكان يرى، أن الموجه الثورية /الناصرية / ليست في مصلحة احد...
جرى نقاش تفصيلي بعدها، عن دراستي الجامعية، وأين سأكملها ومن دون تردد، هاتف الدكتور رفعت السفير العراقي .... واجريت الترتيبات أن نكون في السفارة العراقية، غداً الساعة العاشرة...
والدراسة حقوق، والدخول إلى قلب السفارة تم من الباب الخلفي لمزيد من الاحترام كي نتجنب تزاحم الطلبة على الباب لأمر لم أدرك مراميه...
طلب "أبو الحكم" من د. رفعت تنفيذ رغبته بزيارة " ابن العم أبو كمال معالي صالح الشرع " حتى نهنئه " بالمنصب الجديد" كان المقصد والمحضر ، منزل ذلك الطيب حدّ الطهارة العم "صالح الشرع"، وكان مراد عمي أبو الحكم، التهنئة بتعيينه محافظاً للكرك.
بعد أن ترك منصبه في الحكومة العسكرية، وزيراً للداخلية ووزيراً للشؤون والمقدسات الاسلامية.
وتم تعيينه "محافظا للكرك"، كانت ادارة الدولة ترى في المحافظ قيمة لا تقل عن وزير الداخلية، وشقة في اسكان، احب اليهم من قصر منيف في دابوق، ركبنا سيارة " اوبل" ، قديمة ومن الشميساني صعدنا صوب ضاحية الحسين للإسكان ، كانت قد ولدت للتو، لم تشطّف العتبات للضاحية بعد ، كان ذاك الوزير المهيب يسكن في شقة أرضية بإحدى عمارات الضاحية ، ضمت تلك الدخلة، فيما بعد احلى الخلان والاساتذة، ابراهيم سكجها رحمه الله ، ومحمد السقاف الذي نلت كرم مصاحبته ابان العمل في "المقر السامي" رحمه الله .
أول مرة نلت شرف المجالسة للعم العزيز، الذي كنا ننتظر سماع صوته عبر صوت العرب، حين كان في ضيافة عبد الناصر بضع سنين، لكنه لم يفعل ذلك قط...
أول حديث في السياسة كنت اسمعه، في حياتي من العيار الثقيل..
الملك حسين، ونذير رشيد ، الدكتور رفعت عودة، وصالح الشرع ، بعد أن فرغنا من قصة أين سأدرس الجامعة ، وكانت مبادرة من عمي أبو الحكم بأن عرض للموضوع، وسأل بحسم العم صالح الشرع، كم معدلك ... حسم الامر، لا ستدرس هون ، لا نريد بغداد ولا القاهرة ، وهاتف شخص "عبدالله عقروق" في الجامعة، وكنت في اليوم التالي طالباً في الجامعة الأردنية .
اعود إلى قصة ذلك الرجل البهي "نذير"
سأل صالح الشرع د. رفعت بحنو، "قابلت" ؟!
اجاب الدكتور رفعت بصورة "متذمرة"....
آه قابلته، وتحادثنا قرابة الثلث ساعة..
وقال لي...
انت بتعرف يا رفعت، الآن صلاحيات مدير المخابرات واسعة، والاخ " أبو جعفر" معترض على سفرك لـ موسكو... لكن أنشاء الله أنا بكلمه، بصير خير..
وكأنما د. رفعت قد قال شيئاً، سلبياً بحق "نذير"...
كان اللقاء أو المقابلة، قد رتبت للدكتور رفعت لمقابلة الملك حسين، عن طريق صالح الشرع، للسماح له بالسفر إلى موسكو لإجراء عملية جراحية لزوجته كلثوم عنّاب، شقيقة أول قائد للجيش العربي بعد التعريب 1/3/1956 ، راضي باشا، وكان نذير قد رفض السماح لـ رفعت بالسفر، وقتذاك.
هذه أول قصة عرفتها في عمان.
وكان أولها " نذير رشيد".
ذاك الشخص صاحب الجبروت الذي سيتوسط لديه الحسين للسماح لأحد مواطنيه السفر إلى موسكو..
واول القصص عادة ما تكون أحسن القصص كذكرى...
على ما اتذكر، أن العم صالح الشرع ، قال بهدوئه الدائم وهو السمة الابرز في شخصيته وتكوينه القيادي...
باسماً كان...
أنا بكلم الأخ أبو جعفر ما في مشكلة...
واظن أن الدكتور عقب ذلك قد سافر...
حين صار نذير بمثابة العم لي والأخ الأكبر والصديق الدائم والحبيب، علمت، أسباب النفور الأبدي بين الرجلين نذير باشا رشيد و د. رفعت عودة...
كان محمود الكايد قد فرغ من مجاملة احد الضيوف، الذي كان راغباً في كتابة زاوية في "الرأي" ، "وأبو العزم" لا يحبذ التفاوض المهني خارج مكتبه، واظنه كان يتحوط لذلك، خشية طغيان الانسانيات على قراره، وقد اصطادته السهرات مرات عدة بعكس قناعاته الدائمة مرات عدة...
بمحاولة منه التخلص من الحاح الضيف عليه، قال تعال أبو رفعت لأريك منظراً اعتقد انك لا تعلم عنه قبل الان... ورقعني "بكلمة السّر بيننا"، خلصني!!!
رحنا إلى ركن قصي من صالون المعزب... هاجمته مبادراً... سيدي، رأيت حباً في عينيك هذا المساء ، وانت تستقبل نذير رشيد ، لم أره من قبل..!!
رد وكأني تأخرت عليه بالسؤال.. "بالله عليك لاحظت ذلك" ... مبتهجاً كان أن " التابع" يفهم على المريد أية ومضة ، واشهد الله اننا كنا اتباعاً لذلك " اليعربي الظاهرة" محمود الكايد، ونفهم عليه "بالوما " شو عنده يا سيدي أبو جعفر..؟!
قال لي محمود الكايد ... وأنا أبذل جهدي بان استعير كلماته حرفياً...
أبو جعفر ظاهرة، في المجتمع الأردني...
فهو مقدام جريء.. لا يوارب.. وهو بشخصه صنع لنفسه حيزاً لا يقلد ولا يعاد.. فيه من صفات الرجال، انبلها... فهو جواد، طعّام زاد لا يبارى، ولا يتكرر،تشب ناره في المساء ،ولا تنطفئ حتى يستدفئ ضيوفه من كل طيبه...
وختم شهادته تلك...
المهم في "نذير" انه لم يستـأنس، ولم يرغب بدعم عشيرة أو قبيلة، ولا هو متسلح بسلاح الدراسة في اوروبا بدأ قوته في بساطته، وبسالته وشجاعته...
نذير "ذات"، قبيلة في شخص، وادارة دولة في شخص، وتراث كله كرم في شخص..
واهم ميزاته، انه رجل اخو صاحبه، لا يخذل ابداً...!!
***
البروق، والرعد، والسنون، تمضي كلها ومضات مسرعات...
قربني، بعدها الباشا، من قلبه أكثر وأكثر، كان يهاتفني كلما رأى حاجة لتشجيعي لمقالة "جسورة"، اقترفها في زاوية ( 7 أيام ) المخصصة للحبايب وهي اخر عتبه من عتبات محمود الكايد في مكافأة زميل من داخل "الرأي"، لان السبعة ايام كانت لذوي النفوذ الفكري، من خارج ردهات الراي ، من حسني فريز حتى سليمان عربيات، ومن حيدر محمود إلى خالد محادين ثم خالد الكركي.
وإن لم تخني الذاكرة، لا استطيع استحضار غير بدر عبد الحق، وأنا ممن كانوا قد ادركوا (سدرة السبعة ايام) في تلك الحقبة...
أعني يوم مخصص لك.. وقد تمكنت من نيل "يوم السبت" الذي كان جوهرة التوزيع... والاعلان لصحيفة الأردن الأولى حينذاك...
الباشا نذير بالقلب غير محب لجماعة الإخوان المسلمين، وأظن أن تجربته "مديرا للمخابرات العامة" قد اضافت إلى نظرة القلب لديه، مبررات التجربة، والتحليل العقلي...
وقتذاك، على حواف ما بعد نيسان، كنت واحداً من كتاب " الدولة" المجادلين عقلياً ومعرفياً للإخوان المسلمين ، هل قلت كنت اصعب كاتب ضدهم فيما اكتب..؟! ربما.
صار الباشا نذير، أحد أهم القلاع، التي توقد نار حروفي الأسبوعية خاصة، بعد أن طاب لهم العيش في الحكومة، وأغلبية في مجلس النواب، ووجد الكثير من الكتاب "حرجاً" في متابعة معركة خاسرة مع نجوم جدد...
كذلك فإن أغلب كتاب المرحلة تلك (النجوم)، كانوا من " المسيحيين" وربما أن الهجوم على الإخوان المسلمين من طارق مصاروة، أو من فهد الفانك، أو ذاك المدهش في عروبته "جورج حداد" قد يجد فيه الإخوان ذرائعية دينية للتفسير...
مع أنه وللتاريخ، فإن "نصارانا" و من الحداثيين ما توانوا عن التصدي لتلك المرحلة الصعبة، ولابد أن اذكر بكل وقار دور المصاروة والفانك، والتي كانت حينها في خندق الديموقراطيين (لميس اندوني) وكذلك مقالة رنا الصباغ، وتفوق علينا جميعا جورج حداد ...
لا بد أن أظل شاكراً وممتنا للباشا فيما كان يمدني به من عزم.
وحين انضممت إلى مجلس الكبير مروان القاسم و في دارته بجبل عمان في صباحات السبت، صار التواصل مع الباشا "نذير" و مباشرة وبسحر خاص لأنه كان هو الاخر من رواد مجلس أبو الليث الدائمين...!!
***
" لا يخذل صاحبه، بل اخو صاحبه"...
محمود الكايد كان عميقاً في "علم الرجال"، لان المعرفة بالرجال علم انبثق في العقلية العربية من أول علم فقهي متداول اختصت به (العرب)، من دون سائر الامم، هو "علم الجرح والتعديل" الذي يخص رواة الحديث، والتنقيب في سيرهم وسلوكهم.
***
كان نذير رشيد بالممارسة، قد حقق تحت سمعي وبصري وصف محمود الكايد " له" انه جسور وقبيلة في رجل ، وشجاع وأخو صاحبه..!!
على حواف أواسط التسعينات، وحينها صرت أعمل في المقر السامي، حضرت بالذخيرة الحيّة، هجمة نذير ، بكل فروسيته، ليبرهن على وصف الكايد له قبل اكثر من عقد من السنوات... كنت شاهداً على تلك القبيلة في رجل ، نذير رشيد...
كان مجلس النواب الجديد، قد جاء بمفاجأة خذلان مدينة السلط بإسقاطه للدكتور عبد اللطيف عربيات.
كان مجلس النواب الجديد، قد جاء بمفاجأة خذلان مدينة السلط بإسقاط د. عبد اللطيف عربيات .
فاجأت مدينة السلط، الأردن بان خذلت قائداً استثنائياً من قادة الإخوان المسلمين، وابن عشيرة من اكبر عشائر وادي الكراد.
وشغل رئاسة مجلس النواب عدة دورات...
كل ذلك لم يشفع له ولم يحرز النجاح الذي يعيده لمجلس النواب كان لعدم نجاح الدكتور عبد اللطيف عربيات ، في انتخابات 1993 أكثر من تفسير ، لكن أسهلها واكثرها تداولاً، أن قيادة اللهو الخفي، لجماعة الحركة الاسلامية ، هي من قررت عدم فوز "الدكتور عربيات" ذلك انه راح بعيداً في استجابته لمتطلبات " كرسي الرياسة" لمجلس النواب ، وتلبيته لأشياء تجاوزت "رضى الحركة" ، وأكثرها صخباً في الاجتماع عليه، قيل حينها، أن جلوسه خلف الملك حسين وحضوره اغنية "صوفيا صادق" لرائعة الجواهري في الحسين "اسعف فمي" وتصفيقه بحرارة للمطربة حين قالت "يا ابن النبي" غناءً ، قد كانت المسمار في نعش نجاحه..
هكذا تم تداول السبب على نطاق شعبي، وليس فقط في أوساط النخب، ذاك اليوم ، كان ماطراً و وغسلّت عمان، كانت أرصفتها وحجارتها وكنائسها ومآذنها لمّاعة من غير سوء...
عمان، وروما، فيهما شبه الجبال السبعة، برغم أن عمان صارت الآن مدينة المدن، ومدينة كثرة الاحياء والجبال، الا انها بالنسبة لنا نحن من اخترناها أو واختارتنا، برداً وسلاماً، حين كانت صبية لم تزل تحبذ رؤيتها بذات الجبال السبعة...
والمطر.. في المدن الجبلية، جميل، رؤوف حنون، لا يحيل الارض إلى سبخات ، واوحال، الجبال تجيز بل تلح على مياه المطر انى كانت غزارتها ، تتدحرج من علٍ فتصير موسيقى، مثل موسيقى الرعاة والزراعة .
مطر عمان كأنه ترنيمة، وانتظار بلهفة، للخصب والحب والدفء.
كانت شتوة...
ربما يحلو لي أن أتخيل انها كانت يوم اربعاء حين التقى "سيدنا"، د. عبد اللطيف عربيات في المقر السامي ...
وخلع عليه لقب معالي، أوانه ثبته إلى مالا نهاية..
وعبر عن تضامنه مع ذلك "الرئيس للمجلس التشريعي" الذي ترك اطيب الاثر في تجربة الحياة البرلمانية الأردنية ، والذي كان أول الإخوان المسلمين، في تبوئه لرئاسة مجلس النواب.
من كان قريبا لصانع القرار، علم أن "سيدنا" أمر حينها بمقعد من مقاعد مجلس الاعيان " قيد التشكيل" للدكتور عربيات.
كنت ممن علموا بالإرادة الملكية السامية الخاصة بالدكتور عربيات قبل صدورها، بحكم أن الأمير الحسن قد اصبح نائباً للملك لسفر الملك يوم خميس...
عند مساء ذلك الخميس، كنت على موعد للتمتع حدّ الطرب برجولة وصدق مواقف ذلك.. " ابن الرشيد النذير".
راح سمو نائب الملك ولي العهد حينذاك الأمير الحسن، لممارسة أحد هواياته الرياضية في لعبة البولو على ملعب البولو في الزرقاء ...
كان هناك شباب البولو.. الغر الميامين.
محمد السمان، عمران خير، انمار الحمود..
كانوا فرسان البولو..
"محكّم" المباراة بين فريق الأمير وخصمه هو نذير رشيد.. في تلك المباراة بدا لي الباشا، مهموماً ، وبدون أي نشاط ، عقب المباراة طلب سمو الأمير الحسن، من نذير رشيد البقاء...
خليك معانا... أبو جعفر...
توجه الأمير الحسن، عقب المباراة إلى قيادة أحد الفرق للجيش العربي ، المرابطة ليس بعيداً عن المكان، احب أن انحاز لذاكرتي و واعتقد أن المعزب في تلك الليلة ، كان "حمود القطارنة"...
كان الأمير لم يزل بعد في غرفة تغيير الملابس...
بمودة طاغية لكن بحدة سألني أبو جعفر، ونحن على باب سيارة Land Rover بانتظار خروج الأمير .
أحمد....
صحيح ما تم تداوله امس واليوم، أن سيدنا ، شاف د. عربيات.
اجبته بـ نعم صحيح.
وبدا غضبه يتسربل في حمرة وجهه...
وهل صحيح، أنه وعده بمقعد في الاعيان...
اجبته بمواربة من يدرك " طالما أن الارادة الملكية السامية لم تصدر، يظل ذلك مجرد وعد يا باشا" ..
زعل.... استشاط غضباً...
وكأنه يحدث نفسه قال... "ومروان" شو يعني شو
قلت له محاولاً تبريد ناره التي استعرت بالفعل، وليس مبالغة...
يا سيدي معقول يكون اثنين من العربيات في نفس المجلس...
قال بصخب، آه معقول، ليش مش معقول... وعاد يسأل...
أحمد..
انت زي ابني قولي لي ، هي خلصت ولا لسّا عم تنطبخ...
على نقاط الحروف بمعاناة واحترام، مررت شفتي على الاجابة ... لذلك الباشا الذي فاجأني صخبه...
قلت...
بهمس، وبحذر...
(لا مازالت تطبخ، لم تكتمل بعد.. أظن ذلك يا سيدي)
ارتاحت اساريره.
يعني تنصحني أحاول، في فرصة!!
والحق انه بدا يسأل نفسه أكثر مما كان يسألني..
يجب أن اقول ...هنا، أنني لم اكن اقل حماساً تجاه "عينية" مروان الحمود... ذلك الزعيم الوطني ، الحيي ، الدافئ، الذي يحظى بإجماع (الضفتين) على حسن خلقه ونبل محتبة ودفء قلبه قبل لسانه...
اجبت بسرعة لان الأمير كان قد اقترب
نعم، حاول يا سيدي...
الأمير، كان يقود سيارته ، والعم أبو جعفر في الكرسي الامامي بجواره وأنا كنت من خلف الأمير مباشرة ، ومرافقه العسكري ، اعتقد انه كان المرحوم العقيد "غازي القضاه"...
باشر الأمير امتداح المباراة وتذكر بعض تفاصيلها .. تلفت إلى نذير باشا الذي كان صامتاً غير متفاعل ابداً..
قال الأمير للباشا...
تكلم يا بو جعفر بـ عيونك حكي؟! ولفظ كلمة "حكي" باللهجة السلطية المحكية (الكفكفة) تقلب الكاف إلى (تاء وشين)...
مباشرة انقض الباشا بسؤاله...
صحيح سيدنا، " اخوك"
قابل أمس (فلان) د. عربيات"
باسترخاء المماحك رد الأمير...
آه صحيح ... طبعاً مش عاجبك انت....
وضحك "المعلم"، ضحكته ، التي وصفها طلال سلمان رئيس تحرير السفير ذات حوار عماني جميل انه يلوذ بها ليخبئ حزنه فقلت لطلال سلمان في حينه " ضحكة الأمير يا بو تهاني ، المجلجلة "عزوة الأردنيين" يحسون فيها بالدفء...
اوووف...
كلما استحضر ذلك الحوار، أمتليء احتراماً للأمير، وخلقه الهاشمي... وافاخر بأردنيتي لوجود رجال من طراز نذير رشيد...
***
اندفع الباشا بثورة من غضب، وعتاب ومرراة... ومن باب الاحترام للمجالس والتمسك بأهدابها.. فإنني أمسك على صرخة الباشا المدوية لكن الخصها.. أن ذلك لا يصح أن يتم، ويعتبر خذلانا من العرش لمن ازره ومجاملة لمن لم يكن في خندقه..
وقال بحزن، كيف سنمشي في شوارع السلط، و"مروان الحمود" ليس في مجلس أعيان، والمجلس يضم الدكتور عبد اللطيف عربيات، نريد أن نقول للناس يا سمو الأمير "نحن لسنا مع الذين هم معنا" !!!.
***
كان حزيناً بأكثر مما يحتمله الموقف حتى فاض حزنه على الأمير نفسه، وكان معاتباً بجسارة الفرسان، لكن بأدب من يحتشم ويلتزم التراتبية والاحتياط، في تذكر الفرق بين الملوك وتابعيهم..
رد عليه الأمير محاولاً استيعاب غضبه، وكأنه موافق عليه. قال له الأمير الحسن، بمرح القائد الذي يريد أن ينسي الغاضب غضبه.
قال له.. أبو جعفر..
ولم يتوقف أبو جعفر اكمل مرافعته، ومحاججته.
قال الأمير اسمع يا باشا.. أنا بدي أرد عليك، بالقول، هالحكي عندي بس، والغضب هذا أم انك بتقدر تحكيه لسيدنا..؟!
واضاف ممازحاً.. أم أن قول الشاعرة غزالة.. ينطبق علينا.. اسد عليّ وفي الحروب نعامة.. وضحك سيدي حسن..
رد الباشا بتصميم وحسم.. أحكي له، وأحكي معاه اكثر مما حكيت معك ياسمو الأمير لان سيدنا ارحم منك.. الصعب أن الواحد يحكي قدامك مو قدام سيدنا.. وضحك الاثنان،
وانتقل الحوار إلى قضايا اخرى، لكنها كانت ذات صلة..
مباشرة، عقب عشاء الجيش المدجج بأطايب الطعام، والانضباط. طلب الأمير، اتصالاً من قيادة الفرقة، مع سيدنا في لندن.. كانت المكالمة، تشعشع فرحاً، بينهما ونقل تحيات الضباط وضباط الصف في الفرقة واعلم "سيدنا" عن بعض ما يجري ثم أستأذن لـ نذير باشا أن يتحدث مع سيدنا.
كان جندياً منضبطاً، وفحلاً من فحول العرب.. وكان حديثه للحسين، حديث الفوارس.. بانتهاء المكالمة، صار مروان الحمود، عضواً في مجلس الاعيان تحت التشكيل..
في طريق الاياب.. سأل الأمير الباشا.. مبسوط...؟!
بوجه كله طفولة، مثل الندى، مثل حركة الفراش، زم غطاء رأسه لدفعه إلى الخلف.. وقال بفرح من ظفر بكل شيء. مبسوط، آه مبسوط، هيك لازم يصير..
حين يفرح نذير يعيد كلماته.. وحين يغضب اظن لا يعيدها.. لقد ردد في تلك الليلة، كلمة مبسوط اكثر من مرة.
كان نذير اخ لـ صاحبه..