بحثت عن رقم دقيق حول عدد الأردنيين الذين يعيشون خارج الأردن، فلم أجد رقما دقيقا، وكل الأرقام مجرد تقديرات تتناقض مع بعضها بعضا أحيانا، أو لا تترابط بشكل صحيح.
في كل الأحوال عدد الأردنيين الذين يعملون في الخارج عدد كبير، وقد قرأت ثلاثة أرقام تقديرية، الأول يتحدث عن مليوني أردني يعيشون في 70 دولة، وهذه أرقام مذهلة حقا إذا كانت دقيقة من حيث العدد الإجمالي، وعدد الدول التي يتوزعون فيها، ورقم آخر يتحدث عن قرابة مليون أردني يتوزعون أيضا في عشرين دولة وهذا تقدير آخر بعدد أقل من حيث الأردنيين وعدد الدول، وقرأت رقما ثالثا يصل إلى ثمانمائة ألف يتوزعون على دول مختلفة.
من أبرز مشاكل دول الشرق الأوسط غياب البيانات، أو الداتا الدقيقة حول جميع شؤونها الداخلية، لأن الأرقام مهمة جدا للتخطيط واستكشاف التغيرات والاحتياجات أيضا.
يوم أمس كشفت البيانات الأولية الصادرة عن البنك المركزي، ان حوالات الأردنيين العاملين في الخارج ارتفعت بنسبة 4.2 % لتبلغ ما مقداره 863.0 مليون دولار، وذلك مقابل 828.2 مليون دولار خلال الفترة المقابلة من عام 2023، والرقم كبير في كل الأحوال، خصوصا، وعلينا ان نتخيل فقط عدد البيوت التي تنتظر هذه الحوالات شهريا، وكيفية إدارتها للمال.
ارتفاع هذا الرقم يرتبط بعدة ظروف، من بينها فترة الأعياد، والغلاء في الأردن وكثرة الالتزامات بما يؤدي إلى زيادة قيمة الحوالات من الأردنيين لعائلاتهم لتغطية الطلبات، وربما يعني الارتفاع أيضا زيادة أعداد المغتربين شهرا بعد شهر، خصوصا، وقد بدأنا نشهد ظواهر جديدة وهي الهجرة دون عقود محددة، إلى دول مختلفة للعمل بشكل مخالف للقانون.
لست اقتصاديا لأقرأ الأرقام هنا لكن الكلام يتعلق بجانب آخر، أي نموذج اقتصاد الحوالات الذي كانت تشتهر به لبنان تحديدا، من حيث اغتراب اللبنانيين الى كل الدنيا، للإنفاق على انفسهم وعائلاتهم، وبات بارزا لدينا، ومؤثرا على صعيد البنية الاقتصادية والاجتماعية.
قبل عقود كان أبناء الأردن يذهبون للعمل في الخارج، وبلا شك كان الاغتراب خيارا أخيرا، لكننا نشهد اليوم إقبالا كبيرا على السفر من أجل العمل، بأي طريقة كانت، سواء الدول التي تتعاقد مع الكفاءات في الأردن، أو حتى الدول التي يغامر البعض بالسفر اليها بحثا عن فرصة مثل الولايات المتحدة، وبريطانيا، برغم صعوبة الظروف الاقتصادية، وتحديات الإقامة.
في الأردن ما من بيت إلا وفيه أردني مسافر، وان لم يكن في ذات البيت، تجده في بيت القريب، أو الجيران، والتغيرات على بنية المجتمعات الاجتماعية تتسارع بسبب الظروف الاقتصادية، والتأثيرات المعنوية لوضع المنطقة في العموم، وهذا يعني أن الخيارات التي كان بعضنا يتجنبها، أصبحت هي الملاذ الوحيد، خصوصا، ان المعيار بات هو تدبر شؤون الحياة فقط، وليس مكان العيش، كما ان ظاهرة الاغتراب الطويل سائدة، فكثرة تقرر الاغتراب بعد الحصول على عمل لمدة عام أو عامين، فتغيب عشرة سنين أو عشرين سنة، لان الاغتراب يصبح جزءا من الشخصية مثلما أن هناك تغيرا جوهريا جديدا، أي عدم أهمية التوفير المعتاد في حالات الاغتراب، كما كان سابقا، بقدر العيش بطريقة جيدة، وتغطية الالتزامات الأولية.
الموارد البشرية أهم ما لدينا، وهي موارد تم الانفاق عليها، وتأهيلها بالتعليم والخبرة، وقد قلت مرة لرئيس وزراء سابق من الطبعات الليبرالية ان خسارة الموارد البشرية مؤذية، ويجب وقفها عن طريق توفير الفرص في الداخل فكان رده ان هذا الكلام مجرد عواطف، وان كل شعوب العالم تلحق رزقها من مكان إلى آخر، وتبحث عن الفرص المهمة والجوهرية في حياتها، وأشار يومها إلى أن السوريين واللبنانيين والفلسطينيين وصلوا أميركا الجنوبية منذ نهايات الحكم العثماني، ومثلهم شعوب عربية مغاربية تعيش اليوم كجاليات في دول أوروبية مختلفة.
في كل الأحوال علينا أن نتنبه جيدا إلى الأردنيين في الخارج، فهم ليسوا مجرد مورد مالي لعائلاتهم، بل شريك أساسي في الاقتصاد الوطني، بما يعنيه ذلك من إنفاق واستقرار.
ويبقى السؤال حول الموارد البشرية ومستقبلها، حاضرا بكل ما تعنيه الكلمة.
الغد