يتّصل بي صديقي الفنّان غسّان مفاضلة ، ويلقّف الخلوي لزياد قاسم فنتّفق على موعد سهرة في مطعم "الأوبرج" العمّاني العتيق ، بعد أيام ، لمتابعة مشروع مشترك ، فيسمع كلامي الدكتور ممدوح العبادي ، ليخطف الهاتف ، ويستغرق في مكالمة حميمة مع زياد ، فأبو صالح هو الذي قدّم زياد للقارئ الأردني ، وصاحبنا لم يترك مناسبة إلا ويسجّل للعبادي فضله. وبعد أيام ، أعرف عن الجلطة المباغتة ، ويمرّ يوم آخر ليتّصل بي غسّان ويبلغني بأنّ زيادا يعيش على الأجهزة ، فأكتب مقالة أنهيتها بـ: لو فعلتها يا زياد سأقتلك.
كنتُ قد كتبت نفس الجملة لمؤنس الرزاز ، لكنّه فعلها ، ولهذا تطيّرت ، ولم أنشر المقالة. وفعلها صديقي زياد ، أيضاً ، فباغته الرحيل في وقت ظننته فيه يتشبّث بالحياة ، أكثر فأكثر.
قبلها بأسبوعين كنّا في "الأوبرج" ، وكان هناك فنّان شعبي عراقي يطلق آهاته الحزينة ، مرافقة بنغمات أوتار عود شجيّة ، لأفاجأ بزياد يتحوّل إلى زوربا العمّاني ، فيقف ويترنّم مع المغنّي ، وتتراقص يداه بتجلّ ، ويطلق الآهات على الكلمات العراقية المتعَبة ، وبدا وكأنّه يستقبل حياة جديدة ، ولا يودّع هذه التي حفلت معه بالصخب مرّة ، وبالصمت مرات. زياد مات. ولو تحدّثت شخوصه الروائية لقالت الكثير عنه ، وعن عشقه لعمّان ، وولهه بالعمّانيين ، وحتى آخر أيامه ظلّ يبحث عن كنوزهم المخبأة ، من قصص الشركس والسيل ، إلى الشوام والسلطيين والطفايلة والنوابلسة واليافاوية والكركية وكلّ من جاء إلى مدينة زياد ، القلعة التي كانت مسقط رأسه وقلبه ، فعشقها وعشقته ، وكما لكلّ قصّة عشق من تناقضات وتباينات ، وصدّ وقرب ، ولقاء وفراق ، كانت قصّته معها. فعلها زياد ، كما فعلها مؤنس ، وكما سنفعلها جميعاً ، وستفقد عمّان الكثير من عشّاقها ، ولكنّها ستظلّ تجدّدهم كما تفعل فينوس ـ الزهرة في ليالي العشّق والعشاق ، فيحتجبون هم ، ولا تحتجب هي أبداً ، فالليل لا يكتمل إلاّ بها ، والحبّ لا يكتمل إلاّ بعمان. وأنهي الكتابة ، لأبدأ إعادة قراءة "أبناء القلعة" للمرّة الألف.