في رحلة الانسان الطويلة على الارض مرت البشرية بمراحل متتالية ساد في كل منها عقلية وثقافة واسلوب حياة وقيم تأثرت بنمط العلاقة التي اقامها الإنسان مع الأرض ونوعية النشاط الذي مارسه من اجل توفير الطعام وحماية نفسه ودفع الأخطار وتنشئة الصغار.
في بداية المشوار كان الإنسان يعيش على أوراق وجذور الأشجار ويجوب الارض بحثا عما يمكن ان يقتات عليه وبعدها اكتشف مذاق اللحوم فدخل في مرحلة صيد الحيوانات فاحتاج الى الأسلحة والى تقسيم العمل فظهر الأقوياء والضعفاء واعطي للرجال أدوار اختلفت قليلا عن النساء، وتمكن أفراد الجماعة من الحصول على طعام غني بالمغذيات واستطاعوا توفير بعض الطاقة التي كانوا يستنفدونها وهم يجوبون الغابات والسهول في المرحلة السابقة.
بعد هذه المراحل جاءت مرحلة الرعي والاستئناس للحيوانات، فتولوا رعيها وتربيتها والإفادة من شعرها وصوفها وجلودها، إضافة إلى اللحوم والالبان، وتلتها الزراعة التي انشأت علاقة جديدة مع الارض بعدما فهم الإنسان اسرار الإنبات وحاجات الارض للماء ودورات الزراعة والحصاد والتخزين وكل ما يرتبط بذلك..
وقبل عدة قرون حصلت النهضة الصناعية التي استندت على ثورة علمية وتطبيقات طالت معظم جوانب الحياة.. نعم، لقد كانت الصناعة المرحلة التي تفاعلت مع التحضر وادت الى تدعيم الاستقرار ونمو رأس المال والثراء.. وهي التي صاحبت وعمقت قيم الاستعمار وهيمنة بعض الامم على الاخرى.
الغرب يعيش مرحلة الصناعة ويمنعنا من ان ندخلها بكل الوسائل، بالضغط تارة والاغراء تارة اخرى، لم تتقدم شعوبنا نحو الصناعة ولم تجيد الزراعة فنسيت نفسها في مرحلة الرعي وجاءت بعض السياسات لتعميق هذه الحالة او تشويهها في بعض الاحيان..
بحكم الجغرافيا والهجرات والتنقل دخلنا لمرحلة الزراعة بعقلية الرعي ولم تبذل مجتمعاتنا ولا قياداتها أي جهد جدي لولوج مرحلة الصناعة فقد استمرت فكرة الرعي والرعاية واحبت شعوبنا الغوص في ثقافة رمزية رعوية حتى وإن لم يكن لديهم قطعان ماشية وإبل وحتى وإن أقاموا في بلدات وقرى.
لقد اعتدنا على ان يكون لنا شيوخا وامراء نعمل على خدمتهم وجلب رضاهم ونصبنا أمام قصورنا بيوت شعر وصواوين ومجالس ودواوين لكي نشعر بالبداوة.
والغرب احب لنا هذا الوضع وعمل ما بوسعه ولا يزال يعمل لان نبقى في مربع الرعي. وفي رأيي ان مخططات الاستعمار والقوى التي تهيمن على العالم لا تحمل في طياتها ما سيسمح للعرب بدخول مرحلة الصناعة او حتى التقدم الزراعي بالمعنى الذي يحقق الاكتفاء للأمة.
فمنذ اكثر من نصف قرن جرى اغراقنا بالقمح الامريكي والكندي لكي لا نستمر في زراعة القمح ولتبدو الزراعة غير مجدية.
اما الصناعة والتي تعني ان الأمة قد وصلت إلى مرحلة تمكنها من تحويل الأفكار الى مشروعات والقوانين والنظريات الى تطبيقات تمكنها فهي محرمة وتخضع لقيود وشروط لا نعرف إلا القليل منها.
في الماضي اجهض الاستعمار الغربي كل مشروع نهضوي عربي وتصدى لكل الأفكار والايدلوجيات التي تنظر بدرجة من الاستقلالية وبناء القدرة، ففي ثلاثينيات القرن الماضي كانت مصر متقدمة على كثير من دول العالم فكانت مدنها اكثر تنظيما ونظافة ولديها حركة فنية وثقافية وعلمية مبشرة لكنها تغيرت واستنفدت بالصراعات والحروب.
اما في سبعينيات القرن الماضي وعندما حاولت العراق استعادة الالق واهتمت بالعلوم وحاولت ان تبني مفاعلا نوويا وقوة علمية تنهض بالصناعة جرى العمل على قصف المفاعل النووي من قبل اسرائيل ووضع المخطط لتغذية قوى المعارضة وتهيئتها وخلقت الظروف لإدخال العراق في حروب وصراعات مع جيرانها انتهت باحتلالها وتدمير كل البنى التحتية للمعرفة والتقدم.
الخليج العربي الذي يملك صناديق استثمارية برؤوس أموال خيالية حرم هو الاخر من الصناعة فوجهت مشروعاته نحو المباني وسباق التسلح وتمويل الصراعات الاقليمية والعالمية..
لا يراد للعالم العربي النهضة فكل بادرة للإصلاح يخلق لها ما يفسدها، تارة بدعم الطغاة واخرى بالانقلاب على ارادة الشعوب باصلاحات وهمية لا غاية لها إلا تأخير النهضة واعاقة التقدم وضرب الروح المعنوية للشعوب العربية واغتيال أحلامها بمستقبل مشرق أسوة بشعوب الارض.
في سبعينيات القرن الماضي كانت الصين وكوريا والهند في عداد الدول النامية التي تصارع من اجل البقاء وفي نفس الفترة تضاعف الناتج القومي للعديد من الاقطار العربية عشرات المرات. ومع ذلك لم تتمكن دولة عربية واحدة من تجاوز مرحلة جني الريع وتحويل جله الى مباني وابراج او شراء مؤسسات وجزر وايداع ما يتبقى في بنوك غربية ليجري استثماره خارج جغرافية الشرق دون أن يغير في واقع وأهمية وتنافسية هذا الاقليم الذي كان مركزا للعالم ذات يوم.
اليوم يدير البنك الدولي وصندوق النقد اقتصادات عدد من دول العالم العربي وتشرف جيوش ومخابرات واستخبارات الانظمة الاستعمارية على قرارنا تارة بالتهديد واخرى بالترغيب وترزخ الشعوب العربية تحت وابل من الخيبات والاحباطات التي تجتاحنا ونحن نرى التكالب العالمي على كل ما يتعلق بهويتنا وتاريخنا وادوارنا ووجودنا في هذا العالم وسط سلبية وتخاذل الانظمة التي تستأسد في النزاعات البينية وتقف مكتوفة الأيدي ومتفرجة عندما يتعلق الآمر بالعدوان الصهيو أمريكي على الشعوب العربية ونهب مقدراتها.
الاولوية الأولى للغرب كانت ولا تزال إحكام السيطرة والضبط على الشعوب العربية ومنعهم من الانتقال من حالة الاستهلاك والاعتماد على الغرب الى حالة التصنيع والإنتاج والاستقلالية.
ما يجري في العالم العربي اليوم محزن ومخيف وخطير لان أمتنا ستخرج ان لم تكن قد خرجت فعلا من سباق الأمم نحو المستقبل من خلال الاسهامات بتيار الحضارة الانساني.
لم يعد لدينا ما نضيفه لما قدمه الخوارزمي والمسعودي وابن الهيثم وابن رشد وغيرهم غير ادانة ظاهرية خجولة للاحتلال والابادة والتدمير الذي ترتكبه قوى الاستعمار ومحاولة استرضائه ما استطعنا الى ذلك سبيلا.