يوجه كثيرون سهام النقد إلى السلطة الفلسطينية، ويكيلون لها الشتائم والتخوين أحياناً، كلما أدلى رمزٌ من رموزها بتصريح لا يعجبهم، فيصفونها بأقذح العبارات! ويتهمونها بالتنسيق الأمني، وغير ذلك. فقد صرح رئيسها منذ أيام أن (الحفاظ على أمن إسرائيل واجبنا)، فلقي ما لقي من انتقادات. لقد كان تصريحه صحيحاً، وفي محله، ولا غبار عليه، فهو لم يكشف سراً، ولم ينطق كفراً. فعلى ماذا حملة الانتقادات؟ إن الحفاظ على أمن إسرائيل طبعاً هو "واجب" بالنسبة له، ومن منظوره ووجهة نظره. لكن كيف ذلك؟
أُوسلو أفرزت السلطة: الذين ينتقدون دور السلطة، لما تقدمه من خدمات لإسرائيل، خاصة التنسيق الأمني، ربما لا يتذكرون أول تسريب صحفي صادم عن مضمون اتفاقية "أُوسلو"، أوائل التسعينيات، الذي خرج من موسكو ونشرته الصحف في حينه. كان أبرز ما في التسريب أن أفراد شرطة وأمن "السلطة"، المزمع إقامتها، سيكونون عبارة عن موظفين تابعين لوزارة الداخلية الإسرائيلية، يتلقون رواتب منها.
وبالفعل تم تنظيم ذلك بموجب "بروتوكول باريس"، لإنشاء "قوات الشرطة المدنية الفلسطينية"، والذي أيضاً نظم عمل إدارة السلطة بشكل عام، وجعل الاقتصاد الفلسطيني تابعاً للاقتصاد الإسرائيلي. وقد وقع هذا البرتوكول أحمد قريع – أبو علاء.
فإذا كان هذا هو الواقع العملي للسلطة فلماذا يتم انتقادها على قيامها بتنفيذ جانبها من الإتفاقية، وتحمل مسؤوليات "الواجب" الموكلة إليها، منذ نشأتها قبل ثلاثة عقود؟ فعلى ماذا يشتم المعارضون السلطة الآن؟ ألم يدركوا خطورة "أُوسلو" في حينه؟
كثير من الناس، آنذاك، رحبوا بقدوم هذه السلطة ودخول رئيسها "عرفات" وجماعته، في الأول من يوليو تموز 1994، لا نقول على ظهور دبابات العدو، بل على ظهر اتفاقية "أُوسلو" مع العدو. ونشأت السلطة الفلسطينية رسمياً في الخامس من ذات الشهر، بعد أيامٍ من وصول "عرفات".
شكل العلاقة بين إسرائيل والسلطة: وكان قد جرى توقيع اتفاقية "أُوسلو" في البيت الأبيض، في 13 أيلول سبتمبر 1993، بحضور الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، وياسر عرفات، ورئيس وزراء إسرائيل إسحاق رابين. وقد سُمي الاتفاق نسبة إلى عاصمة النرويج التي جرت فيها المباحثات السرية، عام 1991، بين إسرائيل والمنظمة، في أعقاب مؤتمر مدريد للسلام.
لقد حددت "أُوسلو" شكل العلاقة بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية. إذ نظر الإسرائيليون إلى الاتفاقية على أنها تنازل من الجانب الفلسطيني عن "السيادة" على فلسطين إلى اليهود، وأن أقصى ما هو مسموح به للفلسطينيين، بموجب "أُوسلو"، هو العيش في كنف "دولة إسرائيل" فقط لا غير. بينما ظن الجانب الفلسطيني أن الاتفاقية ستلبي طموحاته في إقامة دولة مستقلة، عاصمتها القدس الشرقية.
شاهد من أهل السلطة: "خدعونا": يروي بسام أبو شريف، الذي كان مستشاراً لـ "عرفات" أنه حذره من مغبة الوقوع في "كمين أُوسلو". ولما أصر عرفات على المضي قُدماً، في التوصل إلى الاتفاقية، استقال بسام من منصبه، ولم يدخل إلى الضفة إلا بعد عامٍ ونصف.
ويقول أبو شريف في مذكراته، إنه التقى شمعون بيريس في مناسبة، فحمله رسالة شفوية إلى عرفات مفادها "أنه لا يوجد أي إسرائيلي، يوافق على إقامة دولة فلسطينية مستقلة. فقط حكم إداري ذاتي تحت السيادة الإسرائيلية".
ولما اعترض أبو شريف على ما قاله أجابه بيريس: "عليك قراءة الاتفاق مرة أخرى، انتم اعترفتم أنه لا حق لكم على هذه الأرض، فكيف نمنحكم دولة، على أرض ليس لكم حق فيها وعليها؟ ولن تقبل أي حكومة إسرائيلية إعطاءكم دولة فلسطينية، أو إقامة دولة للفلسطينيين".
ولما نقل أبو شريف فحوى رسالة بيريس أجابه عرفات: "إنهم بالفعل خدعونا". ويضيف في مذكراته: "أدرك عرفات حقيقة كمين أوسلو وأنه لن تكون هناك دولة، ولا عودة لاجئين، ولا سيادة، ولا حدود، ولا وقف للاستيطان، ولا شيء".
وهكذا خرج الفلسطيني من اتفاقية "أُوسلو" خالي الوفاض، راضياً بوظيفة الحراسة.
"فات السبت على اليهودي": ينتشر المثل القائل "فات السبت على اليهودي" عند العرب والمسلمين عن اليهود وله معنيان. المعنى الأول أن يوم السبت هو عيد أسبوعي عند اليهود له حرمته وقداسته وتقاليده. وبما أنهم لا يحترمون ما هو "مقدس" لديهم فإنهم ينكشفون يوم السبت على حقيقتهم في مخالفة الأوامر والنواهي، وبالتالي فهم ينقضون الوعود والعهود والمواثيق. وهذا المعنى ينطبق على الجانب الإسرائيلي حسب مقولة عرفات "خدعونا".
أما المعنى الثاني للمثل فإنه يقال عندما يفشل الشخص في تحقيق هدفه، فتضيع الفرصة من بين يديه، فيقولون "راحت عليه الفرصة". وهذا المعنى ينطبق على الفلسطينيين، الذين أضاعوا الفرصة فعلاً حين فشلوا في تحقيق هدفهم المنشود، وصاروا يندبون حظهم بأن الطرف الآخر خدعهم. حتى لدرجة أن بيريس تعجب من عدم معرفة بسام أبو شريف ببنود "أُوسلو" فقال له، ربما بنبرة عالية: "عليك قراءة الاتفاق مرة أخرى". وهذا يكشف مدى القصور الخطير لدى الجانب الفلسطيني، هذا إن أحسنا الظن.
خلاصة القول: السلطة أداة لخدمة إسرائيل: يرى بسام أبو شريف أن "النظام الفلسطيني برمته أصبح أداة لخدمة إسرائيل". وعليه فإن منتقدي تصريح "أداء الواجب"، جاؤوا متأخرين ثلاثة عقود. إذ فاتهم القطار. فأين كانوا حين طُبخت "أُوسلو" في جنح الظلام؟
فمنتقدو اليوم أغرتهم بالأمس المناصب والمكاسب، لدى تأسيس السلطة، وطارت من رؤوسهم مفاهيم "الوطن والقضية". ونسوا الهدف الذي خرجوا أصلاً من أجله، وهو "تحرير فلسطين".
لقد كان واضحاً لكلِ ذي بصرٍ وبصيرة، في حينه، أن "السلطة" التي خرجت من رحم "أُوسلو" لها دور وظيفي محدد، وهو توفير الأمن والحماية لمن يدفع لها الرواتب!!! وهذا أقل "واجب"!!!