مشاركة الاردن "الرمزية" في الجهود الدولية المعلنة لحماية المدنيين من حرب الابادة التي يشنّها الرئيس المذعور معمر القذافي وفّرت فرصة لتعزيز العلاقات الاستراتيجية مع مجلس التعاون الخليجي والغرب في زمن تحتاج فيه المملكة إلى خطة إنقاذ مالي وإسناد سياسي استثنائي لمواجهة تردّي الاوضاع الاقتصادية وتحدّيات فشل قيام دولة فلسطينية مستقلة.
فالدبلوماسية الاردنية, كمعظم دول المنطقة, تواجه تحديا غير مسبوق في إدارة الازمات بعد تدحرج الثورات الشعبية عبر الحدود العربية. وهي تراقب المرحلة الانتقالية في تونس ومصر, التي ألقت بظلالها على توازنات القوى في الاقليم وعلى الساحة الدولية.
إعلان مشاركة الاردن في الحملة الدولية تظهر بأن نظامه السياسي المعتدل ملتزم بأي جهد لحماية منظومة حقوق الانسان الاساسية, بما فيها احترام الرأي والتعددية السياسية, بخاصة بعد الانتقادات الدولية غير المعلنة التي طالت عمان بسبب تعامل القوات الامنية ب¯"فظاظة" لدى فك اعتصام ميدان جمال عبد الناصر يوم 25 آذار الماضي, بحسب دبلوماسيين غربيين.
انحياز الشارع وغالبية قوى المعارضة بقيادة الاسلاميين لضرورة حماية المدنيين من الاسلحة المحرمة سهّل مهمة دبلوماسية عمان في دعم جهود (الناتو), بفرض حظر جوي على نظام القذافي, وإنشاء مناطق آمنة لحماية السكان, وضمان وصول المساعدات الانسانية.
فالقذافي, بعكس صدام حسين (الذي أطاحت به واشنطن ربيع 2003 وأعدم أواخر 2005), لا يؤثر في وجدان الشارع الاردني.
القاهرة - عنوان الانقلاب الامريكي على الحلفاء والاصدقاء- تبدو على وشك تغيير جذري في استراتيجيتها الاقليمية, ما يعني خروجها التدريجي من معادلة صراع الارادات قبالة طهران, التي تهدد أمن الخليج- عمق الاردن الاستراتيجي-الاقتصادي بعد الغزو الامريكي لبغداد بتواطؤ إيراني.
بعد رحيل حسني مبارك, يعكف الاردن اليوم على تنمية روابط خاصة مع السعودية, التي تقود بقايا ما كان يعرف بمحور "دول الاعتدال العربي" - إلى جانب مصر والامارات العربية- في وجه الاطماع الايرانية.
تردي الاوضاع المعيشية والاقتصادية بات أيضا يهدد الامن المجتمعي في الاردن, جدار الرباط وركن الاستقرار في المنطقة. وهو يحتاج دعما ماليا من السعودية وغيرها من دول الخليج المقتدرة, سيما أن واشنطن وعواصم أوروبية قد تبدأ بفرض شروط على برنامج مساعداتها لعمان, بما في ذلك ربطها بعمق الاصلاحات السياسية المطلوبة من الحكم لضمان الامن والاستقرار.
عودة إلى زلزلة ليبيا. علاقات القذافي مع غالبية الدول العربية كانت مليئة بالمطبّات والنوادر. حمّام الدم الذي يسبح فيه الشعب الليبي اليوم رفع نقمة الاردنيين ضد نظامه, بخاصة أن الشعب الليبي ثار في سياق الانتفاضات الشعبية المشتعلة منذ ثورة تونس وليس بسبب تدخل الغرب العسكري كما حصل عقب احتلال العراق للكويت عام 1990 وضد نظام صدام حسين عام .2003
توضيح الدور الاردني تجاه الازمة في ليبيا جاء قبل أيام حين أعلن وزير الخارجية ناصر جودة أن طائرات مقاتلة أردنية انضمت إلى احدى القواعد العسكرية الاوروبية بهدف تقديم الدعم اللوجستي وحماية الطائرات الاردنية التي تنقل مساعدات انسانية للشعب الليبي في بنغازي.
تصريحات جودة أمام رؤساء تحرير الصحف دشنت أول إعلان رسمي عن طبيعة المشاركة الاردنية في الجهد الدولي لمصلحة الليبيين. وأوضحت إعلان رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون قبل أيام بأن الاردن وافق على تقديم مساعدات لوجستية للقوات الدولية, غداة مشاركة جودة في مؤتمر لندن الذي شهد اعترافا عمليا ل¯ 43 دولة غربية وعربية بالمجلس الوطني الانتقالي ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الليبي.
بالطبع, لن يفصح الاردن الرسمي عن الجهة التي ستتحمل تكاليف تحريك الطائرات العسكرية. وهي ليست بقليلة. ولن يجيب المسؤولون على تساؤلات مشروعة تمس الفائدة وراء إرسال عدد محدود من المقاتلات لحماية الممرات الجوية المضمونة أصلا من أسراب طائرات الدول المشاركة بقوة في العمل العسكري انطلاقا من قواعد في دول مجاورة مثل تركيا, ايطاليا وغيرها.
إعلان جوده تزامن مع عودة السفير الاردني في ليبيا, منذر قبّاعة, وسبعة من طاقم البعثة الدبلوماسية بعد إخلاء جميع الاردنيين الراغبين بترك الجماهيرية. فعمان لم تعد قادرة على ضمان أمن وحياة دبلوماسييها من انتقام القذافي وكتائبه, بخاصة بعد إرسال مقاتلات لدعم جهد دول الناتو. منذ اندلاع شرارة المواجهات في 17 شباط الماضي, جاهد قبّاعة لترحيل حوالي 4000 أردني, تقريبا نصف المغتربين هناك. وفي غياب 3000 رجل أعمال- يتنقلون عادة في حركة مكوكية بين العاصمتين- يبقى في ليبيا بين 1000 و1500 أردني. السفير العائد إلى المقر كان نجح في إخلاء سبيل أربعة أردنيين, اعتقلتهم كتائب القذافي في الاسبوع الاول من القتال.
الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية محمد الكايد يصر على أن عودة قبّاعة- الذي خدم قبل طرابلس في الخرطوم, إحدى البؤر الساخنة في إفريقيا, لا تعني أبدا قطع العلاقات الدبلوماسية بين البلدين. لكن العارفين بأصول العمل الدبلوماسي يعلمون أن ذلك يعكس فعليا "قرارا غير معلن بوقف التعامل مع نظام القذافي", الذي يبحث عن طوق نجاة للخروج من الازمة.
مشاركة الاردن العسكرية وتعامله السياسي مع الملف الليبي لا تقاس بموقف دول الخليج الاندفاعي, لا سيما قطر والامارات العربية المتحدة. فما تزال عمان تغمس على أطراف صحن الجهد الدولي العسكري.
فقطر, التي أرسلت مقاتلات جوية لحلف الناتو غدت ثالث دولة بعد فرنسا وايطاليا, تعترف رسميا بالمجلس الوطني الانتقالي الليبي بقيادة الثوار. الامارات تشترك بسربي (سكوادرون) طائرات مقاتلة. وهناك معلومات غير مؤكدة عن قيام بعض الدول الخليجية بإرسال أسلحة وأموال لدعم الثوار, في مخالفة واضحة لقرار مجلس الامن.
لكن مشاركة الاردن العسكرية, وإن بصورة رمزية, تعد نقطة تحول جوهري في الموقف الرسمي.
الاردن يصر على أن مساعداته الانسانية ودعمه اللوجستي ينسجم مع طلب غالبية الدول العربية من مجلس الامن فرض حظر جوى على ليبيا, بموجب قرار 1973 في إطار الفصل السابع.
وهذا صحيح. لكن هناك أسئلة مليونية, أو محاذير أساسية, يؤمل أن يكون صانع القرار قد فكّر فيها مليا قبل رفع عتبة مساهمة الاردن في الجهد الدولي من إسناد سياسي إلى توفير "دعم لوجستي" للقوات الدولية. فموقف الاردن من الازمة الليبية كان في سياق عربي أولا ومن ثم انتظم مع موقف اممي. لكن التدخل الدولي دوّل الازمة بعد أن قرّر الثوار عسكرة الانتفاضة الشعبية, وبالتالي نحت تدريجيا نحو حرب أهلية يرجح التدخل العسكري الاجنبي كفة الحسم فيها ويهدد بتقسيم ليبيا.
وقد تنقلب الاية في حال توصلت الجهود المبذولة لإرغام القذافي على وقف إطلاق النار, ما قد يفرز حالة مطولة من عدم الاستقرار يسيطر فيها القذافي على نصف ليبيا (في الغرب) والثوار على النصف الاخر (في الشرق). ذلك يعني فعليا بدء التقسيم.
ففي واشنطن اليوم يتردد كلام عن فكرة التعايش مع تقسيم ليبيا تماشيا مع الانطباعات السائدة بأن استراتيجية أمريكا بعيدة المدى تحمل بذور تقسيم الدول العربية من السودان إلى ليبيا ومن العراق إلى دول مجلس التعاون الخليجي? فواشنطن متهمة بأنها اتخذت قرار تقسيم الدول العربية, إما بإعلان الحرب كما حصل مع العراق أو باستفتاء كما في السودان, بدعم ثورة الشعب غير المكتملة في ليبيا, بفتنة طائفية في دول الخليج ولبنان أو بتقاعس في اليمن ومصر!!. يعزز الانطباع بالوصول إلى "نهاية اللعبة" في ليبيا بروز نبرة افتخار لدى أركان الحكم في واشنطن ولندن وباريس بالانتصار بعد وقف المجزرة في بنغازي, وكأنها كانت منذ البداية نهاية المطاف, بدل أن يكون الهدف مستقبل ليبيا?
وقد تنزلق الامور نحو الاسوأ في حال نجا القذافي وأولاده ونظامه بأعجوبة من هذه الحملة الغربية-العربية وشرع في الانتقام من كل من وقف ضده? وإذا اقترفت قوات الناتو مزيدا من الهفوات غير المقصودة قد تفضي إلى مقتل عدد متصاعد بين المدنيين من ضحايا النيران الصديقة, سيتحرك الشارع الاردني, العربي والغربي على غرار أمثلة أخرى حول العالم. عندها ستبدأ الضغوط على الحكومة الاردنية وغيرها. وماذا سيحدث في حال تراجعت انجازات الثوار الميدانية? وقد بدأوا في لوم الناتو على أساس أن بعض وعوده كانت مضخمة لدرجة التضليل?
التورط الاردني في المستنقع الليبي بدأ.
الوقت لا يخدم القذافي. ولا يخدم مستقبل ليبيا في ظل نظام القذافي أو أنجاله ممن يحاولون وراثة الحكم. لكن بالتأكيد, أن انتفاضة الشعب الليبي دوّلت, وأن دولا عربية وفرت غطاء لمنع انتقاد التدخل العسكري الاجنبي, على أنه- حسبما يروج القذافي- حرب صليبية جديدة ضد العرب.
فكيف ستنتهي عسكرة الصراع على السلطة في ليبيا, بدعم التحالف الدولي-العربي?
التاريخ يثبت دائما بأن استعمال القوة ليس جوابا لأي مشكلة. لذلك ليس من المستبعد تعمق المستنقع إلى أجل بعيد.0
rana.sabbagh@alarabalyawm.net