السرقة هي فعل انتهاك لقداسة الملكية. أما الحلم فهو ممارسة حميمية، لا يستطيع ان يتملكها أحد، لأنها مُلك للجميع.المشترك بين السرقة والحلم، هو ان كليهما ضد التملك. شراكة آسرة بين مفهومين، استغلها الاخوان رحباني، للعبور إلى وقاحة الابداع. والوقاحة هنا هي في مخيلة استعدت لانتهاك المحرمات كلها. ومن دون ان تعرف حدوداً لاقامة العلاقة بين الكلمات. أو أنها لم تُرد الاعتراف بتلك الحدود، بعد ان تعرفت عليها.
في احدى مسرحيات الرحابنة، هناك حوار بين شحاذ وحرامي . حوارٌ يحيل الحياة برمتها إلى فعل يتشبه بالفن. فنٌ هو في جوهرة محاولة لانتهاك تراتب الحياة الاجتماعية. ولأن السرقة هي فعل الحرامي ، و الحلم هو فعل الشحاذ . فإن حواراً بين فعل الفكرتين يمكن ان يوصل إلى تسوية ، تنتهك تراتب الحياة الوقحة في قسوتها. الحرامي يقول: الشحاذ حرامي جبان. والحرامي شحاذ وقح . فيرد الشحاذ: السرقة والحلم أخوة .
مفكرٌ أوروبي، وفي حديثه عن الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية ، يعتبر ان التسول مؤسسة اجتماعية دينية. ويرى أيضاً: ان اخلاقيات القرون الوسطى لم تجز وتشرّع التسول، فحسب. بل مجدته في أخويات المتسولين . ووصل الأمر الى اعتبار المتسولين العلمانيين مرتبة اجتماعية معترفاً بها. حيث جرى التعامل معهم بناء على هذه المرتبة، وذلك لأنهم كانوا يوفرون للميسور فرصة الاضطلاع بالاحسان من خلال تقديم الصدقات.
مجتمعاتنا لم تشهد، أو تعرف، الثورة البروتستانتية. وما يزال شبح التحريم الديني يرزح بثقله على الكائن الاقتصادي فيها. الأمر الذي يجعل دوافع التعويض عن ذلك بالاحسان والصدقات أشد وأكثر إلحاحاً(!). فتحول الاحسان بذلك إلى مؤسسات عريقة في بلادنا. ومؤخراً، صار وسيلة فذة من وسائل شد فقراء المجتمع إلى أغنيائه وأعيانه وزعمائه. وبهذا تسدي تلك المؤسسات خدمة مزدوجة: حيث تبقي الفقراء خارج تضامن الجماعة والطبقة في المجتمع، وبمنأى عن المطالبة بحقوقهم من جهة. ومن جهة أخرى، تمكن الاغنياء من ممارسة اشكال مختلفة من الاستغلال الاقتصادي المضاعف عليهم.
في الاحتفال المسيحي الشرقي بعيد البربارة ، هناك زعيم الطواف، الذي يسمى العرندس . حيث يقود أعوانه على صوت الطبول والرقص الساخر للطواف على البيوت في العيد. وفي هذا الطواف الساخر، يتقاضى الفقراء، في حفلة تسول جماعي كل عام، من الأغنياء الإحسان شرعاً. ويقابل ذلك كرنفال برازيلي سنوي، يحمل طقوساً وثنية. كرنفال هو في جوهره انتهاك للتراتب الاجتماعي بين الناس. حيث يجري تخريب النظام الاجتماعي القائم، وفيه ينتخب المحرومون من السلطة زعيماً من أكثر فئات الشعب فقراً وتواضعاً. وفي يوم الاحتفال يطلب الزعيم المنتخب من الناس الاستسلام لأعلى درجات الفوضى والجنون، وذلك بعد ان يقوم رئيس بلدية المدينة الفعلي بتسليمه مفاتيح المدينة، للاحتفال لمدة خمسة أيام. العرندس اللاتيني، أو ملك الكرنفال مومو ، يقود ممارسة الفقراء والمحرومين لاحتفالهم الواقع خارج الزمن .
في الطقوس البابلية والرومانية القديمة، لهذا الاحتفال، كان العرندس، أو زعيم الكرنفال، يُضحى به بعد انقضاء مدة ولايته، أو يُدفع الى الانتحار. إذ ان انتهاك التراتب الاجتماعي لا عقوبة مناسبة له سوى الموت. وفي الازمان الحديثة، يجري قتل رمزي لزعيم الكرنفال البرازيلي بعد انتهاء الاحتفال.
القتل الرمزي للزعيم هو طقس اعادة تنصيب للحاكم الفعلي، وتجديد البيعة له وجوهر الفكرة والاحتفال، هو اعادة انتاج السلطة او النظام الاجتماعي، عبر تخريب النظام الاجتماعي والسياسي القائم لاعادة تكريسه..(!!).
على حافة سكين، يسير احتفال العرندس الشرقي اليوم. فمفاتيح المدن سُلّمت، لا الى المحرومين، بل الى وكلاء الحارمين غزواً. أما المحرومون، أصحاب الأرواح الصخرية المنصدعة ، فماء باردٌ يندلق بفيض مجهول، على ما تبقى من صخر في نفوسهم لم ينصدع بعد..(!؟).
FAFIEH@HAYOO.COM