في حين تجاوز محتجون على التعبير عن حرية الرأي خلال الاحتجاجات المؤيدة لغزة ورفضا للعدوان عليها في رمضان الماضي، تطلب الأمر تدخلا أمنيا ضد هؤلاء المتجاوزين.
ورغم أن التدخل كان قانونيا وعقلانيا، وجاء انطلاقا من المصلحة العامة، إلا أن أصواتا طالعتنا منددة بذلك، واتهمت الأردن بأنه دولة قمعية، وأنه ينتهج سياسة تكميم أفواه المتظاهرين السلميين، وصولا إلى اعتقالهم. ورغم أننا لا نريد فتح ملف الممارسات ولا الهتافات، ولا حتى العناوين العريضة التي وحدت جماعة من أولئك المحتجين غير الغامضين، إلا أننا كنا نتعجب من محاولات إغراق مواقع التواصل الاجتماعي بأكاذيب وإشاعات كان هدفها واضحا جدا، وهو خلق فجوة بين الشارع وأجهزة الدولة، وصولا إلى إثارة الفوضى الكاملة في البلد.
أسترجع ذلك، وأنا أشاهد عبر الفضائيات ما يحدث في حرم الجامعات الأميركية، خصوصا في جامعة كولومبيا، حيث تحولت ساحاتها إلى مسارح لعمليات أمنية للتنكيل بطلبة خرجوا للتعبير عن رأيهم فيما يحدث اليوم من تطهير عرقي واضح في غزة والضفة، وقد عبروا عن ذلك بوعي وبطرق سلمية وحضارية.
أولئك الطلبة المحتجون ينحدرون من أعراق، وجنسيات مختلفة، وبينهم طلبة يهود، إلا إن ذلك لم يمنع من اتهامهم بمعاداة السامية، لتستدعي إدارة جامعة كولومبيا رجال الأمن، والذين بطشوا بالطلبة والمدرسين، وعاثوا فيهم تنكيلا واعتداء واعتقالا، في واحدة من الحوادث النادرة جدا أن تحدث داخل صرح أكاديمي، خصوصا في الغرب الذي أثقلنا بخطاباته عن القيم السامية خلال أكثر من قرنين.
لقد تابعنا كيف تدخلت كل أركان الإدارة الأميركية التي تتشدق بالقيم الديمقراطية العليا، لإطلاق التهم جزافا على هؤلاء الطلبة.
لكن، أنا لا أستغرب أبدا سقوط قناع الزيف عن الغرب، فمنذ السابع من أكتوبر العام الماضي، سقطت أقنعة الإعلام الغربي، الذي انحاز بشكل سافر إلى دولة الاحتلال، التي تمارس إبادة جماعية غير مسبوقة بحق الأشقاء في غزة، بل ذهبت هذه المؤسسات إلى بث خطاب الكراهية، وتزوير الحقائق، وهي مؤسسات في دول طالما أصدرت دراسات صنفت فيها دول العالم الثالث على أنها مناهضة لحرية الرأي والتعبير، وأن سقوف حرية الكلمة فيها في أدنى مستوياتها، بل ذهبت لتمويل مؤسسات لتدريب الشعوب المهنية وكيفية نقل الحقائق، والتحقق منها!
وبالتوازي مع ذلك، كانت القيم الإنسانية تنهار والعالم يشاهد الأطفال والنساء والمسنين في غزة، وهم يسقطون بفعل الرصاص والصواريخ وقذائف المدافع، ثم جاءت المجاعة التي خطط لها الكيان الصهيوني جيدا، ونفذها بتواطؤ عالمي، بينما حول هذا الاحتلال الوحشي قطاع غزة إلى أرض منكوبة تحتاج 14 عاما لإزالة الأنقاض.
لا أستغرب القمع الأمني للمتظاهرين السلميين في الجامعات الأميركية، فمن يرضى أن ينهار القانون الدولي والإنساني، ويسمح لدولة الاحتلال بفعل ما تريد، بل ويزودها بالسلاح والمال لمواصلة إبادتها الجماعية في غزة، من السهل جدا عليه أن يعتقل كل من يفكر بالتعبير عن رأيه.
الأصوات التي شككت بمواقف الأردن، وهاجمت إدارته للتظاهرات عند الكالوتي والمحافظات ووسط البلد، واعتبرته دولة بوليسية، أراها قد اختفت، ولم نسمع منها تعقيبا على ما يجري في جامعات دولة الديمقراطية العظمى، ولن نسمع منها أيضا في حال تطورت الأحداث في جامعات فرنسا، التي تشهد تظاهرات طلابية سلمية.
بالتأكيد لن نسمع من هؤلاء تعليقا واحدا، فنحن نملك موهبة خارقة في التقليل من شأن الذات، فيما يعتبر هؤلاء أن ما يحدث خارج حدودنا أمر مبرر تفرضه مقتضيات فرض الأمن، وتحقيق السلم المجتمعي!
لا يحق لنا في الأردن، أن نحمي سيادتنا في السماء ضد من يحاول استخدامها في تحقيق أهدافه، ولا يحق أيضا لنا أن نعاقب أي متظاهر ذي أجندات يسعى إلى التخريب، ولا يحق لنا أن نقول إن الأردن دوما له مصالحه الخاصة وأولوياته، ولن يسمح لأي كان أن يعبث بها، أو حتى يحاول أن يفعل!
حسنا إذن، حتى لو رفضتم، فينبغي أن تعلموا أن الأردن يحق له كل هذا، وأنه لن يتوقف عند آرائكم غير الوطنية!
الغد