«ثورة ثقافية» .. ولكن إلى أين؟!
صالح القلاب
07-04-2011 05:01 AM
حالة الجدل المحتدمة الآن في مصر بين اتجاهات حزبية وسياسية قديمة وجديدة التي تُخاض معركتها على شاشات الإعلام الالكتروني وعلى صفحات الصحف اليومية والأسبوعية والفصلية ,الكبيرة والصغيرة, وانخرط فيها كبار الكتاب تشير إلى حالة عدم استقرار في هذا البلد الذي سبق الدول العربية كلها في إنشاء كيانٍ شبه مستقل عن السلطنة العثمانية (الخديوية) والذي عرف الحداثة والتحديث في عهد محمد علي في فترة مبكرة جداً قياساً بما استجد على هذا الصعيد في منطقة الشرق الأوسط كلها.
كان الاعتقاد لدى الكثيرين ,في مصر وخارجها, أن ظاهرة ميدان التحرير ستفرض نفسها على الحياة السياسية والاجتماعية المصرية وأن كلَّ ما غيرها سوف يتلاشى لكن ثبت وبسرعة أن هذا الاعتقاد اتَّسمَ بسطحية قصيرة النظر وأنه بالأساس كان لابد من إدراك أن الشباب الذين فجروا ثورة 25 يناير (كانون الثاني) لا قيادة محددة لهم ولا برامج واضحة تجمعهم وأنهم التقوا عبر وسائل الإعلام الالكتروني على شعارات عامة مستمدة ,بعفوية, من هواجس القطاع الأوسع من الشعب المصري ومن تشوهات الثلاثين عاماً التي قضاها الرئيس مبارك وبطانته السيئة في الحكم.
كان المفترض ,وهذا لا يزال قائماً حتى الآن وإن بحدود ضيقة, أن تأخذ هذه الموجة الاجتماعية والسياسية العاتية في طريقها كل الأشكال والتشكيلات الحزبية القائمة ,الفعلية والشكلية, من الحزب الحاكم إلى «الإخوان المسلمين» إلى قوى اليسار الناصري كلها وفي مقدمتها حزب التجمع إلى «الجماعة الإسلامية» إلى «السلفية الجهادية» لتظهر مكانها أحزاب ديموقراطية حقاً وليبرالية فعلاً لها القدرة على تخليص المجتمع المصري من موروثه المشوه الثقيل وإقامة الدولة المدنية والعلمانية العصرية التي يجد كل مصري له مقعداً مريحاً في قاطرتها سواءً كان مسلماً أم قبطياً أو عربياً أم من أصول تركية أو سنياً أم من باقي ما تبقى من شيعية الدولة الفاطمية الإسماعيلية.
لكن هذا في حقيقة الأمر لم يتبلور حتى الآن ولا توجد أي أدلة يمكن الاعتماد عليها بأنه قريب الظهور والتبلور بل وأن ما يدعو إلى خيبة الأمل أن ظاهرة ميدان التحرير قد اهترأت بسرعة وأنها تحولت إلى تشظيات لا تجمعها إلاّ المظاهرات المليونية التي هي مجرد تحركات استعراضية طفولية وتنفيسية وأن «السلفية الجهادية» الناهضة من جوف التاريخ البعيد هي التي قفزت إلى الواجهة وأن أول انجازاتها هدم أضرحة آل البيت وغيرهم من أولياء الله الصالحين.
وهذا كله إن كان له جانب ايجابي فإن هذا الجانب هو معركة الجدل العنيف التي تحتدم الآن على صفحات الصحف وعلى شاشات وسائل الإعلام الالكترونية والتي ولجَ إلى ميدانها كبار الكتاب وكبار السياسيين وذوو الاتجاهات في مصر وهو ما يمكن اعتباره «ثورة ثقافية مصرية» لكن لا بد من الأخذ بعين الاعتبار أنه ليس كل ثورة ثقافية تنتهي نهاية سعيدة فالثورة الثقافية الصينية التي أطلقها ماوتسي تونغ في العام 1965 وحرك بموجبها شباب المدن نحو الأرياف كانت نتائجها دماراً أصاب البلاد كلها وهي أفرزت «عصابة الأربعة» التي كادت تمزق هذه الدولة العظيمة لو لم يظهر مصلحون حقيقيون على رأسهم دينغ سياو بينغ الذي هو رمز هذه النهضة العملاقة.
هناك تجارب مرت بها دول وأمم كثيرة عرفت الثورات التي أبدعت في تحطيم وتدمير القديم السيئ والكريه لكنها قصَّرت في أن تبني على أطلال هذا القديم جديداً واعداً يشكل نقلة نوعية نحو المستقبل المنشود وهنا فإن الخوف كل الخوف هو أن هذه «الفوضى» التي تنبأ بها جورج بوش (الابن) وأعطاها صفة «الخلاقة» ستصبح بالنتيجة مدمرة حتى إن هي استطاعت الإطاحة بالقديم كله ,الأنظمة والمجتمعات والقوى السياسية, لكنها إن لم تستطع إيجاد البديل الأفضل ,الذي هو الدولة المدنية والتحديث المواكب لمعطيات العصر وإفساح المجال لـ»العقل» ووضع حد لـ»النقل» والذي هو أيضاً الديموقراطية الحقيقية والليبرالية المنضبطة, فإنها ستفسح المجال لقوى أكثر ظلامية ورجعية وأشدُّ انغلاقاً ذهنياً وفكرياً من هذه القوى والأحزاب التي تحتل الواجهة الآن ,إن في تونس وإن في مصر, والتي بالتأكيد إن هي وصلت إلى الحكم فإنها ستمارس استبداداً لا مثيل له إلاّ الاستبداد الذي مارسته الكنيسة الكاثوليكية في أوروبا في القرون الوسطى!!
(الرأي)