العلاقة بين الصدق والكذب جدلية. فالكل يتحدث عن فضيلة الصدق ويجد نفسه مضطرا او مكرها او محتاجا للكذب. للتخفيف من الشعور بالذنب او الخجل ابتدع العرب مقولات ليستخدمها من يمارسون الكذب كقول "الكذب ملح الرجال.. وعيبا على اللي يصدق". ومع كل ذلك فإن الجدل لا يزال قائما والقضية لم تحسم بعد.
في القصص والروايات التي نسمعها هذه الايام من الإعلام او من الساسة او التواصل الاجتماعي او حتى الافراد في المجالس والمحادثات الكثير من الكذب لدرجة انك تشك في كل كلمة وفي كل بيان وفي كل رواية.
في هذا المقام تحضرني طقوس لعبة الحزازير التي كان يمارسها بعض الرفاق ايام المدرسة ويتصدى بعضهم لهذه الألعاب ويكترث لها اكثر مما يكترث للدروس والموضوعات المقررة.
في السادس الابتدائي التحق بمدرستنا طالب جديد اسمه ماجد الحجوج وقد كان مدججا بالاحاجي والالغاز وكنا نجتمع حوله عند كل فسحة ليدير لعبة الالغاز التي يبدأها بقول "اضمر..". فنقول ضمرت فيستكمل "ارمي نصفهم في البحر" فنجيب "رميت" ويستمر الى ان يقول ان ماتبقى لديك "عشرة" فنجيب نعم دون أن نعرف اذا ما كان ذلك حقيقة ام اننا اندمجنا في لعبة الاحاديث والالغاز.
اظن اننا اندمجنا في لعبة لا نعرف عنها الكثير وما علينا الا تحسين شروط الاندماج.
الصدق قيمة عليا وفضيلة نتحدث عنها كثيرا لكننا لا نلتزم بها. باستثناء الأنبياء والصديقين وبعض الفلاسفة واصحاب المبادئ الذين اعدموا دفاعا عنها.
لا احد يتقيد بالصدق حتى وان قال لك عند كل مفصل في حديثه "صدقني" او استهل الجمل والمداخلات بقول "صدقا". اليوم يبدو ان لا مكان للصدق الا في العالم المثالي وبين البسطاء والزاهدين. الكثير ممن يقولوا الصدق هم اشخاص بسطاء معزولون لا تأثير لهم في الاقتصاد والسياسة ولا حتى في الاوساط الاجتماعية. ففي عالم يعج بالكذب والكذابين يوصف الصادقين بالبسطاء او على البركة او بالمتزمتين.
لكي تعيش وتتقدم في عالم اليوم لا بد أن تكون "ملحلح" واللحلحة تحتاج إلى مقدار كبير من المجاملة والمسايرة والدبلوماسية والكذب.
الكذب هو القول الذي لا يتطابق مع الواقع او يعبر عن الحقيقة. ويأتي الكذب على اشكال ولخدمة اهداف من يكذب. ففي بعض الحالات يستخدم الكذب لايهام السامع بشيء لا علاقة له بالحقيقة كأن يرسم او يؤلف قصة او خبرا بقصد خلق صورة مرغوبة من قبل الكاذب لدى المتلقي. وقد يأتي الكذب في سياق الحوار او الاجابة على سؤال فيضلل من يسأل ويدفعه للاعتقاد بشيء يخالف الواقع والحقيقة.
في حالات اخرى يكون الكذب دفاعا عن الذات. وكثيرا ما يأتي على هيئة روايات ينسجها الخيال لتصنع من صاحبها بطلا او من اخرين أبطال لا وجود لهم إلا في رواية الراوي الهادفة الى الزعم والادعاء.
المشكلة اليوم ان الجميع يكذب تارة ليخفي الحقيقة وتارة ليصنع من نفسه او اربابه ابطالا وفي حالات اخرى ليتجمل او ليحسن القبح.
الدول تكذب هي الأخرى وتستحدث مؤسسات متخصصة لتصنيع وترويج الكذب وتنفق عليها أموالا طائلة. السياسات التي تضعها الدول والخطط الاستراتيجية تبقى غاية في السرية والكتمان وتعمل على حماية هذه الخطط والاستراتيجيات والأهداف بتضليل وتمويه وتغطية مدروسة.
غالبا ما يرتبط نجاح المؤسسات الاستخبارية بمدى القدرة على التضليل لدرجة ان لا شيء من سلوكها الظاهر واقوالها يتطابق مع ما تخفيه وتحاول الوصول اليه.
في عالم اليوم تعتبر الدبلوماسية فن من فنون تجميل المواقف او إخراج القرارات والسياسات التي تخدم مصالح اصحابها بصيغ تخفف من وقعها او تستوعب الردود وتكييفها.
في عالم تتضارب فيه المصالح وتتباين القوى وتتعارض الرغبات يصبح الكذب ضرورة يصعب الاستمرار بدونها.
مع سرعة التغير وتراجع فعالية القيم التقليدية وضعف الالتزام بها اصبح الكذب حرفة ومهارة يستخدمها البعض كوسيلة فعالة لطمر الحقيقة وتسويق رغبات اصحاب السلطة والنفوذ..
ما لم يكن في الحسبان ان الكثير من الأكاذيب التي نسجت لتسويق الرغبات تكشفت بعد انقضاء القليل من الوقت وأضعفت مصداقية من نسجها وتناقلها وروج لها.