الأرقام التي يتم إعلانها حول قطاع غزة، أرقام غير صحيحة، وغير دقيقة أبدا، وربما الأرقام الأصلية أكبر بكثير من الأرقام التي نقرأها كل يوم، وليس أقل بطبيعة الحال.
هل أصبحت هذه الحرب، مستدامة، ومجرد خبر عادي في وسائل الإعلام، هذا سؤال بحاجة إلى إجابة، لأن الذين كانوا يشعرون بغضب بالغ من استشهاد طفل، أو عشرة أطفال، أصبح بعضهم معتادا على إحصاءات الحرب الحالية، وكأننا أمام عداد كهرباء يحصي لك الاستهلاك كل يوم، ليرسل لك الفاتورة نهاية الشهر، دون سؤال أو جواب أو اعتراض.
في أرقام يوم أمس أقرأ عن ارتفاع حصيلة العدوان الإسرائيلي على القطاع إلى 34151 شهيدا و77084 إصابة منذ السابع من تشرين الأول الماضي، والرقم مرعب، وهو ليس صحيحا في كل الأحوال لعدة اعتبارات، أولها أن آلاف العمارات السكنية والمربعات تم هدمها بواسطة صواريخ وقنابل متطورة جدا، ولم يجد الذين يبحثون أي شخص على قيد الحياة، أو أشخاص نجوا كليا أو جزئيا، وما زالت الأنقاض في مواقع كثيرة كما هي دون تحريك.
هناك صواريخ وقنابل أدت إلى تحويل الشهداء إلى رماد في الهواء، وهذا يعني أن فكرة الإحصاء العددي بحد ذاتها غير دقيقة، خصوصا، أن النسيج الاجتماعي داخل القطاع، تم تهشيمه وتقطيعه، بعد عمليات القصف والترحيل من مكان إلى آخر، بحيث لا يعرف الأخ عن شقيقه إذا كان ناجيا، أو شهيدا، وربما يظنه معتقلا، أو مختفيا، أو انتقل إلى مكان آخر مع توقف شبكات الاتصال، وصعوبة وصول الناس لبعضهم البعض.
أخطر ما في الحرب تحولها إلى حرب مستدامة، نحصي أرقامها يوميا، ونزم شفاهنا أمام ارتفاع الأرقام، وإذا كانت إسرائيل وجهات دولية حاولت في مرحلة معينة تكذيب الأرقام، واتهام من يصدرها بكونه يبالغ، إلا أن بعض هؤلاء عاد وتراجع أمام دقة الأسماء، وأمام المعلومات التي تتدفق من القطاع، وتتحدث أيضا عن 8 آلاف شهيد، لا أحد يعرف عنهم شيئا، وعن آلاف الإصابات التي فقدت حياتها دون إعلان، وعن آلاف المعتقلين الذين يختفون يوميا داخل القطاع، ويتم ترحيلهم إلى سجون الاحتلال للتحقيق، وقد يعود بعضهم بشكل لاحق.
نحن أمام سيناريو سيئ جدا، وفي ذاكرتنا عدة حروب منسية، وباتت في وقتها مجرد خبر يومي، مثل الحرب العراقية الإيرانية، وحرب البوسنة والصرب، وحرب أوكرانيا الحالية، بل وحرب السودان التي تسفك دماء الأبرياء يوميا ولا يتذكرها أحد، باعتبارها ليست مهمة، فتسأل نفسك على ماذا نركز في هذه المنطقة، وأي حرب تثير غضبنا حقا، وأي حرب سنتابعها أكثر من بضعة أشهر محدودة فقط، وأي حرب يمكن تخليصها من لعنة الأرقام، نحو وقفها الفعلي.
كل التقارير حول قطاع غزة، باتت مشغولة بالأرقام، أرقام الضحايا، أرقام الإعمار وكلفه، أرقام المرضى، عدد الأطفال الأيتام، وغير ذلك، لكن لا أحد يحدثك عن التدمير المعنوي الأخطر تأثيرا حين يتحول الناس إلى مجرد أرقام في كل الإحصاءات الفلسطينية والعربية والدولية، دون أن تتحول هذه الأرقام إلى وسيلة فاعلة لوقف الحرب بشكل كامل.
الأرقام قد تساعدك سياسيا لفضح الجرائم أمام العالم، لكنها في عالمنا العربي تحولت الى مجرد إحصاءات من باب العلم بالشيء، وبهدف تحديث آخر الأرقام لديك.. فقط لا غير.
الشعوب ليست مجرد أرقام، والرقم هنا يعني إنسانا له حياته حين كان يعيش هناك.
الغد