مع أن الوقت ما زال مبكراً للحديث عن عملية إعادة الاعمار في غزة؛ في ظلّ العدوان الهمجي الإسرائيلي، وارتقاء ما يزيد عن 34 ألف شهيد، إلاّ أن قراءة المشهد القادم مهمٌّ حتى لا يستمرّ العدوان ويتّخذ اتجاهات جديدة، كاستمرار الحصار؛ لأن المعركة ليست بالجانب العسكري فقط، بل تتخذ عدّة طرق وآليات مختلفة كالمعارك الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
إنّ عملية إعادة إعمار غزة من أكثر المشاريع تعقيداً من عدة جوانب؛ ذلك أنها عملية تتم تحت الاحتلال وبوجود مقاومة وطنية، كذلك فمن الناحية الفنية والهندسية واللوجستية تختلف عن إعادة الإعمار بعد الكوارث الطبيعية كالزلازل والفيضانات، كما حصل في تركيا وليبيا وسوريا، وتختلف عن مفاهيم إعادة الإعمار بعد الحروب الأهلية، نتحدّث عن إعمارٍ مرتبط بثوابت حقّ الفلسطيني على أرضه، كذلك تختلف عن مفهوم الإعمار الشامل بعد الحرب العالمية الثانية كما حدث بمشروع مارشال.
فعملية الإعمار ليست مرحلةً حتمية الحدوث، بل هناك مجموعة من العوامل التي تتأثر بها على عدّة مستويات سياسياً واقتصادياً، والحديث عن الإعمار إنما يُشكّل فصلاً جديداً من المعركة، وهي تحمل رمزيةً خاصةً تتعدى الاحتياجات المادية من التثبّت بالأرض ورفض سياسة التهجير.
لقد أدّى العدوان المستمر إلى تدمير ما يزيد عن (121) ألف وحدة سكنية تدميراً كاملاً، و(60) ألف وحدة سكنية تدميراً جزئياً من أصل (334710) وحدة سكنية في القطاع، منها (44903 وحدة في المخيمات الواقعة في غزة) حسب دائرة الإحصاءات الفلسطينية عام 2018، أي أن النسبة قد تجاوزت 54% ما بين تدميرٍ كلّي أو جزئي، إضافةً إلى تدمير المدارس والمستشفيات والجامعات والبُنى التحتية، وخسارة تجاوزت (1.5) مليار دولار لقطاع التجارة.
في تقرير البنك الدولي الذي صدر نهاية شهر آذار، تمّت الإشارة إلى أن الخسائر قد تجاوزت (18.4) مليار دولار منها (13.3) مليار دولار لقطاع الإسكان و(5.1) مليار دولار لباقي القطاعات: الصناعية والتجارية والصحية والبنية التحتية... إلخ، وضمن هذه الأرقام لا بدّ من تحليلها من جانبين:
أولاً: ارتفاع قيمة كلفة قطاع الإسكان، والرقم الحقيقي هو أقلّ بكثير من ذلك، لأن العديد من الأرقام الصادرة من جهاتٍ دولية ومحلية متضاربة، علماً بأن الرقم الحقيقي هو (3.2) مليار دولار.
ثانياً: اعتماد تاريخ 7 أكتوبر كمرجعية لخسائر القطاعات الصناعية والتجارية والزراعية، علماً أنه في هذا التاريخ كان الحصار الاقتصادي ما زال مستمراً على غزة، ونسبة البطالة كانت (49.7%) والآن وصلت إلى (80%) " (للعاملين فقط في القطاع الطبي والإغاثة")، ونسبة النمو كانت أقل من (1%)، ونصف السكان تحت خطّ الفقر؛ وذلك نتيجةً لسياسة الحصار منذ عام 2006.
فكيف نتحدث عن أرقام لإعادة الوضع الاقتصادي لما كان تحت الحصار، فمن المفترض قراءة الأرقام من عام 2006، فالإعمار ليس بناء وحداتٍ سكنية، بل يتعدّى المفهوم لإعادة بناء الاقتصاد كذلك.
عند الحديث عن المرحلة المقبلة، يجب أن لا تتحوّل ورقة الإعمار إلى ورقة جديدة للعدوان، ذلك أن العودة لخيار (إعمار 2014) والذي عارضته العديد من القوى الفلسطينية والمعروف بخطة (سيري/ مبعوث الأمم المتحدة) والذي وضع به العديد من العراقيل وأهمها السيادة على الإعمار، ذلك أن إسرائيل وضعت العديد من القيود على إدخال (100) فئة من البضائع مما تعتبرها "استخدام مزدوج"، بدءاً من الاسمنت والحديد والزجاج ومضخات المياه... إلخ، واحتكرت إسرائيل ما نسبته (45%) من مادة الاسمنت بواسطة شركة (نيشر Nesher) وبعد الضغط الدولي تمّ فتح استيراد الاسمنت المصري والتركي، ومع ذلك بقيت كلفة الاسمنت الإسرائيلي أقل بـ(40%) من كلفة الاسمنت المستورد، مما يعني استمرار العدوان بنهجٍ اقتصادي جديد.
وكذلك فإنه من ضمن (خطة سيري) ضرورة تسجيل كلّ المواد بوجود كاميرات مراقبة وموافقة إسرائيلية على المواد والجهات التي سيتم الإعمار والبناء فيها، كذلك المقاولين المنفذين والمعتمدين، وتحديد الكميات والأسماء والأشخاص... علماً بأن الاحتياج القادم للإعمار في قطاع الإسكان فقط من الاسمنت يتجاوز (5.6) مليون طن اسمنت، و(600) ألف طن حديد؛ لإعمار (121) ألف وحدة سكنية.
كذلك فإن (مؤتمر المانحين) الذي عقد في القاهرة عام 2014، تحدث عن دعمٍ مالي دولي وصل إلى (5.4) مليار دولار، لم يصل منها أكثر من (45%) بسبب الإجراءات والإعاقات الإسرائيلية في ذلك الوقت.
إن الوفاق الفلسطيني من كافة الفصائل والجهات ضرورةٌ قصوى عند الحديث عن الإعمار، وبعكس ذلك سيستمر العدوان بطريقته جديدة، لذا فإنه وبدون رفع الحصار المفروض منذ عام 2006 لن يكون هناك إعمار للقطاع بالمفهوم الشامل الاقتصادي.
وهناك تحليلات كثيرة حول المرحلة المقبلة، ولكن من المهم أن يكون هنالك خطة وطنية واضحة للإعمار، تتناسب مع مفهوم السيادة، ذلك أن خطة وزير الدفاع الإسرائيلي القادمة جالانت تتحدث عن فريق عمل متعدد الجنسيات بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، بالشراكة مع الدول الأوروبية وبعض الدول العربية، مع استبعاد أيّ دورٍ فلسطيني في الإعمار، مع إعفاء إسرائيل من دورها الإجرامي.
إن سكّان غزة أصبح لديهم خبرة طويلة بالإعمار، ودليل ذلك صمودهم في كلّ مرحلة من سنوات العدوان، بدءاً من 2008 و2012 و2014 و2019 و2021، فهم من أوجدَ طريقة إعادة التدوير لمخلّفات البناء، وإعادة استخدامه في عمليات الإعمار.
إن حرب الأرقام للإعمار مرحلة مهمة، ذلك أن رفع بعض القطاعات وتخفيض البعض الآخر له أسبابه؛ لأن ذلك قد يعني عجز المجتمع الدولي عن تلبية التمويل اللازم، وبالتالي يجب قراءة وتحليل آليات الدعم، والتركيز على الجوانب الاقتصادية والاجتماعية وليس إهمالها؛ لأن هنالك رمزية خاصة تتعدّى الاحتياجات المادية وإبراز الهوية، وأن العنوان يجب أن يكون للقادم رفع الحصار الاقتصادي وآلية الإعمار الوطنية.