مكانة قطر تتعزّز بالاستهداف الصهيوني
ياسر ابوهلاله
22-04-2024 10:10 AM
عندما رفع الرئيس المصري الراحل، أنور السادات، شعار "مصر أولاً" وتنصّل من القضية الفلسطينية، طُرِدَ من جامعة الدول العربية، ولم يخرج مصري في جنازته، فالمصري، كأيّ عربي، يعي أنّ قضيّته المركزية هي فلسطين، سواء لاعتبارات تتعلق بالأمن القومي المصري ومصر أولاً، أم لاعتبارات الشعور القومي أو الإسلامي أو الإنساني. تأكّدت هذه الحقيقة في "7 أكتوبر" عربياً وإسلامياً وعالمياً، فمن يشذّ هو من ينحاز إلى العدوّ، لا من ينحاز إلى الشقيق. وبمعزل عن القصور العربي الرسمي، يكاد الرأي العام العربي يُجمع، بحسب كثير استطلاعات رأي، على رفض التطبيع ودعم المقاومة، وهذا ينسجم حتى مع الرأي العام العالمي، وتبدو شريحة الشباب في الولايات المتحدة مؤمنة كما هم العرب بقضية فلسطين، لا بل تقدّمت جامعات أميركية في الحراك على جامعات دول عربية وإسلامية، وما يحدُث في جامعة كولومبيا في نيويورك من استدعاء للشرطة لقمع المتضامنين مع غزّة نموذج غير مسبوق.
في سياق دعم القضية الفلسطينية، يقرأ الموقف القطري تجاه الحرب في غزّة وتداعياتها، وليس في سياق "دعم حماس". والذين يستهدفون الموقف القطري هم الصهاينة، سواء من يلقون أطنان القنابل على غزّة أم من يحرّكون الإعلام وجماعات الضغط والكونغرس، ومن سار في ركبهم من صهاينة العرب، وهم أكثر تطرّفاً وبذاءة.
حتى بعد مؤتمر مدريد (1990) لم تتخلَّ الدول العربية عن مركزية القضية الفلسطينية، رغم القصور العربي الناتج عن خروج دول مركزية من الصراع
قبل تأسيس "حماس" في 1987 ظلّ العالم العربي يعتبر القضية الفلسطينية قضيته المركزية، حتى بعد مؤتمر مدريد (1990) لم تتخلَّ الدول العربية عن مركزية القضية الفلسطينية، رغم القصور العربي الناتج عن خروج دول مركزية من الصراع، مثل العراق بعد احتلال الكويت، ومصر بعد "كامب ديفيد" (1978)، والجزائر بعد الحرب الأهلية (العشرية السوداء)، وانهيار الاتحاد السوفيتي، إلا أنّ الدول العربية حتى من طبّع، ووقّع معاهدة سلام، ظلّ ملتزماً بالقضية. المثال الواضح هنا الأردن، فالملك حسين الذي لم يكن راديكالياً، بل حليفاً لأميركا، وفي الوقت الذي ذهب فيه إلى مؤتمر مدريد، استقبل رسميّاً في الأردن المكتب السياسي لحركة حماس، برئاسة موسى أبو مرزوق في ذلك الوقت، ورأس المكتب قبل ذلك خيري الآغا في جُدّة. وبعد توقيع "أوسلو" (1993)، وبعدها "وادي عربة" (1994)، لم يتغيّر شيء، حتى عندما نفّذت "حماس" عملياتها الكبرى بعد اغتيال يحيى عياش (1996)، وبعدها جاءت محاولة اغتيال خالد مشعل (1997)، لتؤكّد التزام الأردن بدعم القضية الفلسطينية رغم توقيع "وادي عربة". وبعد الإفراج عن مؤسس الحركة وزعيمها الشيخ أحمد ياسين بواسطة الملك حسين، ثمناً لمحاولة اغتيال مشعل الفاشلة، جال ياسين العالم العربي، وكانت قطر ضمن جولته، التي شملت السعودية والإمارات، وتلك الحفاوة بالشيخ المُصاب بالشلل الرباعي عبّرت عن الالتزام بالقضية الفلسطينية. وقتها لم تطلب قطر من "حماس" الانتقال إلى الدوحة، ولم تفكّر الحركة في مغادرة الأردن، البلد الأقرب إلى القضية الفلسطينية. ما حصل أنّ السياسة الأردنية بعد رحيل الملك حسين تغيّرت، وأغلقت الحكومة الأردنية مكاتب الحركة واعتقلت قادتها. هنا جاء دور قطر لحلّ نزاع أردني فلسطينيي يضر بالبلدين، وبالقضية الفلسطينية، وتمكّنت الوساطة القطرية من التوصّل إلى حلّ قبلت به "حماس" على مضض، تغادر معه الحركة عمّان إلى الدوحة، وسبّب ذلك فتوراً وتوتراً طويلاً في العلاقات الأردنية القطرية، إذ اعتبرت الدوحة وقتها أنّ اتفاق الخروج كان مؤقتاً لا دائماً. طوت صفحة الخلاف تلك زيارة الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، الذي كان وليّاً للعهد في قطر، إلى الأردن، برفقة خالد مشعل، الذي التقى الملك عبد الله رسمياً للمرّة الأولى.
اضطرت "حماس" إلى مغادرة دمشق، حتى لا تكون شريكةً في الدّم السوري. هنا جدّدت قطر التزامها بدعم القضية الفلسطينية واستقبلت قيادة "حماس"
جرت مياه كثيرة قبل ذلك، لم تستقرّ حماس في الدوحة بعد مغادرة عمّان طويلاً، فقطر كانت اضطراراً لا خياراً، فالتزام البلد بالقضية الفلسطينية لا يعني أنّه المكان المناسب لوجود القيادة الفلسطينية فيه، نظراً إلى ابتعاده جغرافياً وديموغرافياً عن فلسطين. سريعاً، وجدت الحركة في دمشق مكاناً مناسباً، أفضل من عمّان وجدّة. في دمشق، كانت الحركة مطلقة اليد عسكرياً وسياسياً ومالياً. كان نظام بشّار الأسد يجد في "حماس" جسراً مع المجتمع السنّي السوري، وكان هذا المجتمع يؤمّن للحركة، بحسب ما أبلغني مسؤول كبير فيها، أكبر دعم مالي شعبي، أيضاً، كانت الطائرات السمتيّة للجيش العربي السوري تحت تصرّف خبراء الصواريخ في "حماس" لقياس مدى كل صاروخ وكفاءته. ذلك وغيره، لم تكن لتؤمّنه قطر ولا الأردن ولا السعودية.
انتهى العقد الذهبي في دمشق بالثورة السورية. حاول خالد مشعل، كما حاولت قطر وتركيا، وغيرهما، الوساطة بين الأسد والمتظاهرين، لكنهم فشلوا بسبب تعنّت النظام ودمويّته، فضلاً عن أخطاء الثورة التي كانت عفوية تفتقد قيادة مركزية. اضطرت "حماس" إلى مغادرة دمشق، حتى لا تكون شريكةً في الدّم السوري. هنا جدّدت قطر التزامها بدعم القضية الفلسطينية واستقبلت قيادة "حماس"، تماماً كما التزمت بدعم الشعب السوري في وجه الهجمة الدمويّة بعد ثورته السلمية. لو اعتذرت قطر وقتها عن استضافة "حماس" لبقيت الأخيرة، مثل حركة الجهاد الإسلامي، في دمشق، وهذا كان سيرسّخ الحضور الإيراني في القضية الفلسطينية على حساب الحضور العربي. انحازت قطر، في تلك المرحلة، إلى الشعب السوري تماماً كما انحازت إلى الشعب الفلسطيني، ضدّ الاستبداد وضد الاحتلال. وقتها وقفت مع الشعوب العربية في "الربيع العربي"، واتُّهِمَت بدعم "الإخوان" تماماً كما تُتَّهَم بدعم "حماس". والواقع أنّ قطر وقفت مع الشعوب العربية ومع الشعب الفلسطيني، وهذا الموقف الذي تتّخذه الدول المحترمة، وفي الوقت الذي تسابق فيه العالم العربي إلى تعويم بشّار الأسد ظلّت قطر وحيدة في رفض التعامل معه، رغم أنّ "حماس نفسها أعادت علاقاتها معه.
وجود حركة حماس في الدوحة حقّق فرصة للتوصل إلى صفقة ناجحة في بداية الحرب، وهو ما استحقّ شكراً من الأميركيين والإسرائيليين
حقّق وجود حركة حماس في الدوحة فرصة للتوصل إلى صفقة ناجحة في بداية الحرب، وهو ما استحقّ شكراً من الأميركيين والإسرائيليين، لكنّ فشل المحاولات اللاحقة جدّد حملات اللوبي الصهيوني على قطر بحجّة أنّها لا تضغط على "حماس" للقبول بالصفقة، سواء في تصريحات مسؤولين إسرائيليين أم أعضاء كونغرس أم كتّاب صهاينة. تلك الحملة دفعت رئيس الوزراء القطري وزير الخارجية الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني إلى القول إن بلاده في صدد مراجعة الوساطة وإعادة النظر فيها. ونشرت "وول ستريت جورنال" تقريراً ينقل عن مسؤولين عرباً أنّ قيادة "حماس" تفكّر في الانتقال من الدوحة، واعتبرت الصحيفة أنّ ذلك قد يؤدّي إلى "قلب المحادثات الهشّة لإطلاق الرهائن رأساً على عقب".
سواء نجحت المفاوضات أم فشلت، وسواء بقيت "حماس" في الدوحة أم غادرت، فالقضية الفلسطينية تظلّ هي القضية الفلسطينية، والتزام العرب بها شرط عروبتهم، والهجوم الصهيوني على قطر بسبب هذا الالتزام يعزّز مكانتها، خصوصاً أنّ القضية الفلسطينية بعد "7 أكتوبر" في وضع أفضل بكثير على مستوى العالم مما كانت عليه من قبل، كما أنّ إسرائيل أضعف استراتيجياً عمّا كانت عليه.
العربي الجديد