يتسيد المتفوقون الزُرق سنام المشهد الافتراضي في مواقع التواصل الجتماعي، وخصوصا على فيسبوك، ويلوّحون بأرجلهم من فوقه. فعدا عن أنهم طفرة مباغتة لا جذور لها، إلا أنهم يفهمون في كلِّ شيء بدءاًمن قلي العوّامة المدعومة بهريس البطاطا إلى تفاصيل عملية تخمير كعكة اليورانيوم الصفراء في أتون المفاعلات النووية.
هم خبراء في شرح ركائز الاقتصاد الياباني وتقاطعاته مع الجارة الحمراء. وهم العارفون بتفاصيل النمو الاقتصادي الهندي الطامح ليكون في المرتبة الثالثة عالميا في غضون بضع سنوات. هم خبراء في علم الطفولة وخصائص المراهقين وقادرون على تحديد أسباب تدني مدى الرؤية الأفقية عند تلعثم شروق الشمس في بطون الوديان. هم متمرسون في تفكيك جديلة الحامض النووي الريبوسومي منقوص الأكسجين DNA، ويستطيعون موازنة معادلات الطاقة كلها؛ استناداً إلى النظرية النسبية للعم ألبرت آينشتاين.
صحيح أنني لا أعرف من أين تبنعُ أنهار الثقة عند هؤلاء؛ لكني أرى وأشعر- كغيري من الصامتين المكتفين ببحلقة العيون - كيف تتدفّق هادرة تلك الأنهار دون أن تفرش على جنبيها، ولو خطاً ضيقاً من الاخضرار. لا أعرف من أين تأتيهم الثقة الأكيدية لتمنحهم قدرات التنظير والحديث في كلِّ شيء، وبأسلوب فيه نَفَسٌ يعلو على أنفاس العلماء العارفين.
تجلت ظاهرة «وهم التفوق» بكل ضروبها وشجونها وصخبها المقيت المميت على مواقع التواصل. فالبعض بات لديهم منصة يطلقون منها ما يريدون، وكيف يريدون، دون أن يعوا ماذا يريدون. وهذا الفضاء فرض على الجميع أن يدلوا بدلوهم، فلا مجال لأن تقف أو تتوقف، ولا مكان لك في صف المنصتين المتعلمين السائلين. كل واحد بات يحاجج ويعلل ويحلل ويحرم ويستنبط ويستنتج ويقترح. وماذا ينقصه كي لا يفعل هذا؟.
في ذات الحين واليقين نرى أصحاب الاختصاص يحجمون عن إبداء الرأي بشكل عاجل حتى ولو كانون عارفين، ويطلبون أن نمهلهم في أية قضية قد تشق الأفق؛ لمزيد من التحليل والتدقيق والمراجعة. ولكن غيرهم سريعو الفتوى، ممتلئون باليقين حتى نوافيخ رؤوسهم، وهذا يذكرني بما كتبه الفيلسوف برتراند راسل عن الأغبياء الواثقين، والأذكياء الممتلئين بالريبة، وبما قاله تشارلز داروين من أن الجهل في كثير من الأحيان يولّد الثقة أكثر من المعرفة.
من أجل هذا عليكَ ألا تستهجن تسيّد التافهين وركوبهم ذرى المشهد. عليك ألا تستكثر عدد المصفقين وحشود المسبحين بسطوتهم وحمدهم، وزرافات الماشين في مساربهم. عليك ألا تسأل عمن وضعهم في مكانتهم هذه.بل اغسل يديك وارح روحك، فنحن نرزح في زمن يعلي من شأن الرغام والخشب ولا يكلف نفسه في البحث عن الجواهر والذهب.
الدستور