بين وارسو وعمان .. مفارقة النأي بالنفس في بيئة الصراع
حسن جابر
21-04-2024 02:04 PM
يحمل التطور في مسار الصراع الإيراني – الإسرائيلي العديد من التداعيات على إقليم الشرق الأوسط، فبعد أن كانت إيران تنتهج المواجهة بالوكالة سابقًا، شكّلت الغارة الإسرائيلية على مبنى القنصلية الإيرانية نقطة تحول قد تُنذر بتحولات غير مسبوقة، حيث اتجهت إيران وللمرة الأولى للرد المباشر على استهداف قنصليتها في دمشق من الأراضي الإيرانية نحو إسرائيل مباشرة، وحمل هذا الرد وللمرة الأولى أيضًا تهديدًا مباشرًا للمجال الجوي الأردني، وهو ما تعاملت معه عمَّان عمليًا عبر التأكيد على سيادة الأردن على مجاله الجوي، وإسقاط أي أجسام قد تدخل الأجواء الأردنية، وأعاد هذا المشهد طرح تساؤلات قد تبدو غائبة عن الأذهان منذ زمن، إلا أنها كانت موضع أبحاث سابقة في مجال التحليل الاستراتيجي تتمحور حول تموضع الأردن إذا نشب صراع إيراني – إسرائيلي مباشر، خاصة أن الحتمية الجيوسياسية للأردن تفرض عليه توسط الطرفين جغرافيًا.
على سبيل المُفارقة؛ يرشدنا التاريخ للتجربة البولندية إبان الحرب العالمية الثانية، حيث حَمل المشهد المحيط ببولندا قُبيل سبتمبر/أيلول 1939 قدرًا كبيرًا من الضبابية وتضارب المصالح الإقليمية، وهو ما أفضى لغزو ألمانيا النازية ومن ثم الإتحاد السوفيتي لبولندا، وسبق هذا الغزو اتفاقية سرية جمعت وزيري خارجية كل من ألمانيا النازية ونظيره السوفيتي كُشف عنها لاحقًا، وحملت اسم ميثاق (مولوتوف-ريبنتروب)، والذي نصَّ على عدم اعتداء الطرفين على بعضهما البعض، وعلى تقاسم الأراضي البولندية فيما بينهما، وهو ما حدث بالفعل، حيث أطبقت القوات الألمانية والسوفيتية على بولندا، والتقى الجيشان وسط بولندا وفقًا لما اعتُبر حينها مؤامرة عليها، التي سعت جاهدةً لتجنب الانزلاق في هذا الصراع، رغم أن هذا الغزو سبقه سلسلة من التحذيرات البريطانية لهتلر على عدم المساس ببولندا، وتمثل رد فعل الحلفاء بإعلان الحرب من بريطانيا وفرنسا على ألمانيا النازية، وتصنف هذه الحادثة على أنها الشرارة المباشرة التي أشعلت نيران الحرب العالمية الثانية، كما استمرت معاناة بولندا طوال سنوات الحرب (1939-1945)، ويظهر الشاهد من هذا الحدث؛ أن النأي بالنفس في بيئة الصراع الإقليمي يعتبر عملية معقدة، وأن عدم نجاح الساسة البولنديين حينها في تخطي الصراع، وتجنب التورط بين المشروعين السوفيتي والنازي، قد يُترك للقدر الذي حتّم على جغرافيا بولندا التوسط بين الطرفين.
أما في الشرق الأوسط المعاصر، حيث سلسلة طويلة من الصراعات العنيفة التي عصفت بالإقليم خلال القرن الماضي، وليس آخرها في المرحلة التي أعقبت ثورات ما يُعرف بـ”الربيع العربي”، والتي غيرت ملامح الإقليم وتستمر تداعياتها حتى اليوم، إلى جانب جولات الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي الذي يُراوح في حلقة مفرغة من تجدد الصراع بلا فُرص تسوية جادة قد تلوح بالأفق، وما بين ضبابية المشهد الإقليمي وتضارب المشاريع الجيوسياسية لإيران وإسرائيل؛ يقبع الأردن الذي تجنب الانخراط في العديد من الصراعات الإقليمية سابقًا، وهو ما أفضى لاستقراره لعقود من الزمن، إلا أن مخاطر انزلاق الإقليم نحو مواجهة إيرانية – إسرائيلية مفتوحة، يستدعي رفع مستوى الحذر هذه المرة، حيث أن انتهاج الأردن لمبدأ عبور الأزمة والنأي بالجغرافيا الأردنية عن أي صراع إيراني – إسرائيلي يحمل قدرًا كبيرًا من العقلانية في صناعة القرار الأردني، إلا أن السؤال المهم هو ما مدى عقلانية إيران وإسرائيل في ضبط إيقاع مواجهتهما؟
يُفسر إغلاق المجال الجوي الأردني أمام الصواريخ والمسيرات الإيرانية، وتحذير إسرائيل بعدم استخدام المجال الجوي الأردني للرد على إيران، على أنه رسالة جادة للمستقبل موجهة لكلا الطرفين مفادها؛ أن الأردن ليس ساحة لتصفية الحسابات الإقليمية، فحيث فرضت الحتمية الجيوسياسية على الأردن أن يتوسط إقليم الشرق الأوسط، إلا أن إدارة هذا الموقع الجغرافي هي ما تعكس قدرة صانع القرار السياسي على تجنب الانزلاق في أي مواجهة إقليمية، ومن هُنا تُثار التساؤلات حول قدرة الأردن على انتهاج مبدأ النأي بالنفس في بيئة الصراع الحالية، على اعتباره المبدأ الأكثر فاعلية في المشهد الحالي، إذ تعززه الخبرة الأردنية في صراعات الإقليم، حيث ترتفع جدوى عدم الانخراط في هذه الصراعات لجملة من العوامل أهمها كثرة التقلب في نمط التحالفات الإقليمية، والمجال الحيوي الأردني الذي ينتشر فيه كلا النفوذين الإيراني والإسرائيلي، كما أن النأي بالنفس ينسجم مع محددات القدرة الأردنية إذا تقلبت حالة الاصطفاف في الإقليم.
لعل الاستئناس بحدثٍ تاريخي آخر يوضح كيفية عبور الأردن من أزمةٍ مشابهة، وذلك حين استهدف العراق إسرائيل بصواريخ سكود (أرض – أرض) في يناير/كانون ثاني 1991، وتأزم الموقف الإسرائيلي مُستنفرًا للرد على العراق، وهو ما وضع الجغرافيا الأردنية في وسط الصراع مجددًا، حينها أرسل الأردن رسائل جادة للولايات المتحدة الأميركية بعدم السماح لإسرائيل باستخدام المجال الجوي الأردني للرد على العراق، وأن الأردن سيتخذ الإجراءات العسكرية اللازمة إذا ما انتُهكت أجواء الأردن، على اعتبار الحفاظ على السيادة الأردنية وفضائه الجوي، وهو ما حدث بالفعل، حيث ضغطت إدارة جورج بوش الأب الأميركية على حكومة إسحاق شامير، وهي حكومة ليكود يمينية حينها، لعدم الرد على الصواريخ العراقية، واستجابت الحكومة الإسرائيلية لجُملة الضغوط الأميركية، علمًا ألا اتفاق سلام كان قد جمع الأردن بإسرائيل حينها.
يدعم هذا الحدث الفرضية القائلة بأن التاريخ يعيد نفسه، بمعنى تكرار ذات الحدث ولكن بلاعبين آخرين، فهذه المرة الطرف الشرقي هو إيران بمشروعها الإقليمي ذو البُعد الأيديولوجي لا العراق العربي، والطرف الغربي إسرائيل الأكثر تطرفًا عما كانت عليه في تسعينيات القرن الماضي، والتي ثبت بحكم التجربة صعوبة تحقيق سلام حقيقي معها في ضوء تصاعد اليمين المتطرف فيها، وما بين الشرق والغرب؛ يسعى الأردن لتجنب الاستقطاب الإقليمي، فكلا الطرفين لديهما مشاريعهما الإقليمية التي تتجاوز المصالح الأردنية بلا شك، وتحتدم الدعاية السياسية لكلا الطرفين باستخدام الأساليب النفسية لتأجيج شعوب المنطقة، حيث إيران التي تُجاهر بالعِداء لإسرائيل، وإسرائيل التي تُعاظم من الخطر الإيراني على دول المنطقة وتدعو للتحالف معها لمواجهته، والحقيقة أن كلا المشروعين لا يُلقي بالًا للمصالح العربية، وإنما السعي الحثيث لاستقطاب الدول العربية لتحقيق مصالح ذاتية لكلا الطرفين فحسب.
إن نجاح الأردن في إدامة النأي بالنفس عن الانخراط في الصراعات الإقليمية يُعتبر الغاية المُثلى في بيئة الشرق الأوسط الخشنة، لا سيما مع غياب العمل العربي المشترك والذي يُفضي لافتقاد عمق استراتيجي للأردن في ضوء تضارب المشاريع الجيوسياسية الإقليمية، ومن هنا يمكن القول بأن المفارقة ما بين عمّان ووارسو قد تطرح تساؤلات للمستقبل حول مدى قدرة الأردن على الاستمرار بانتهاج استراتيجية النأي بالنفس، وما حدود ديمومة هامش المناورات السياسية التي يمكن للأردن التحرك فيها بما يضمن أمنه الوطني، والاستمرار بإدارة موقعه الجغرافي بتحييده عن المواجهات الإقليمية التي تحمل في طياتها عواقب بعيدة المدى.
معهد السياسة والمجتمع