لا يختلف أيّ صاحب ضميرٍ حيّ , أيّ انسان يمتلك احاسيس و مشاعر فِطرية , على فظاعة ما يجري على أرض الواقع في القطاع , مشاهد لا تُحتمل فاقت مشاهد القتل في هوليوود , و مجازر لا تُصدّقها الاعين وقعت في غزة , جابت مشاهدها العالم بأسره , فحرب غزّة هذه ليست كسابقاتها , فهي اليوم الحدث العاجل في كل مكان في العالم تقريبا , و في ظلّ عِنادٍ انتقاميّ تُمارسه اسرائيل تجاه غزة , تنتقم به من البشر و الحجر عن عدة ساعات اتاحها القدر للانسان الغزيّ أن يعبّر فيها بكل ما أوتي من قوة عن سنوات من الظُلم و التراكمات التي رضعها في الجينات و المُخيّلة من تحكّم اسرائيلي مُطبق .
يختلف كُثر على جدوى السابع من اكتوبر , و هذا أمر طبيعي في ظل مأساة كارثية ، فغزة قبل طوفان الاقصى أكثر أمنا و جمالا بلا احتلال داخلي ، لذلك ترى فئة من الناس السابع من اكتوبر كيوم مشؤوم جلب كارثة لا مثيل لها للناس هناك , كرجل مفتول العضلات ضربه صبي يافع من الخلف , فقام هذا الرجل بضرب الصبي حدّ السحل و القتل و تقطيع الاوصال , هكذا يرى معارضو حماس أو حتى بعض مؤيدوها الذين يفصلون بينها و بين طوفان الاقصى الصباح الاكتوبري المذهل ذاك , أمّا مؤيدو السابع من اكتوبر فيرونه انتفاضة لا مثيل لها سطّرت ضربة عميقة للصورة النمطية التي حاولت اسرائيل صنعها على مدار عقود من الزمن , بيد أن معارضو حماس قد يميلون للمنهج العقلاني الذي يُقيّم الحدث وفق النتائج و الامكانيات و القدرات , يميل مؤيدو حماس نحو المنهج العاطفيّ اكثر , الذي يتكئ على القدرية و العفوية في التعامل مع الاحداث , و الشرعية التي لا تعرف الحسابات.
لا يمكن ابدا انكار ايجابيات السابع من اكتوبر , فبالاضافة لكسر الصورة الحديدية للجيش الاسرائيلي , اثبتت اسرائيل استحالة وحدانية هذا الجيش , استحالة أن يتصرّف فرديا وحيدا دون دعم , فاسرائيل اليوم تعتمد على عدة جيوش غربيّة على رأسها الجيش الامريكي لرفد مخازنها بالسلاح وصولا لللوجستيّات و التخطيط.
من ميّزات السابع من اكتوبر , ايجاد افضل حكومة و رئيس حكومة في اسرائيل , فعند النظر من الباب النفعي لصالح القضية , بنيامين نتنياهو هو افضل من قاد الجيش الاسرائيلي , قد يستغرب البعض من هذا التحليل و يجدني أمدح و اثني على مُجرم حرب ! بالتأكيد لا ...
بل إذا نظرنا إلى طريقة قيادة نتنياهو لملف (غزة _حماس ) سنجد أنّه ملف انتحاريّ لاسرائيل بحد ذاتها قبل أن يكون دمارا لغزة , فلنتخيّل رئيس حكومة اسرائيليّ آخر قرّر العفو عن حماس , و الصفح عن ضربتها العميقة لاسرائيل , ماذا كانت ستجني غزة ؟ أكانت ستتحرّر ببضع عشرات من أسرى الحرب و صواريخ بسيطة بدائية لا تضاهي تلك المتطوّرة في اسرائيل؟
لو فعل نتنياهو هذا , هو أو أيّ صانع قرار اسرائيلي , لظهر الكيان أمام العالم حمامة سلام في وسط غابة من الثعالب , لكانت اسرائيل قد اصطنعت وسائل أخرى طويلة الأمد تخنق بها القطاع اكثر و اكثر لكن بضجّة اقل , من تجويع جزئي و حتى تسميم لماء و هواء غزة يفتك بالبشر عبر السنين !
بالتأكيد لو فعلت اسرائيل هذا لكنّا اليوم لا نتدمّر نفسيّا عند مشاهدة المآسي , لكان عدد الشهداء أقل بكثير و الدمار الواسع شبه معدوم , لكن ما دمنا اليوم في خضم هذه المعركة و دخلنا في نفق لا رجعة منه, علينا النظر و التحليل من جانب آخر مغاير عن التقليدي , نتنياهو اليوم هو أفضل رئيس وزراء اسرائيلي يُعرّي صورة الجيش الاسرائيليّ , يكشفها على حقيقتها امام العالم , دول عديدة بدأت تنظر لفلسطين من باب الشرعية و الاستقلال بعد ادارة نتنياهو للملف الغزيّ , شوارع العالم أنصفت غزّة في مشهد كاسح لم يشهده الغرب من قبل, فالغربيّ اليوم قد لا يعرف حماس و لا قادتها , بل يرى المشاهد الفظيعة و يسعى لانصاف فلسطين في المجمل بناء على ما شاهد.
رابين...
من وجهة نظر اسرائيل , كان رابين خطيرا بقدر خطورة الحُلم الفلسطينيّ بوطن مستقل , لذلك كان من الواجب التخلّص منه , اغتيال اسرائيل لرابين كان الورقة الاخيرة في نعش الحكمة الاسرائيلي في التعاطي مع القضية الوطنية الفلسطينية , فرابين بعد اوسلو كان يسعى لاستقلالية فلسطين خصوصا و أن اوسلو كانت اتفاقية عالمية و ليست ثنائية بين فتح و الدولة العِبرية , لذلك تؤكد اليوم اسرائيل أن نتنياهو جاء لتدمير اسرائيل من الداخل , لتفتيت الشارع الاسرائيلي الذي يتخبّط بوتيرة متسارعة , و يُرجم من دول العالم لفظاعة ما يقترفه في القطاع , و نتنياهو في قرارة نفسه يعي أنّه دخل هو الآخر نفق لا رجعة منه بلا لا بصيص ضوء يستطيع الاسترشاد له , فهو يعرف يقينا بأنّ انتهاء ملف غزة يعني حرقا لكرته خلف القبضان , فنجده يتعنّت في التغّول في غزة بالرغم من الخسائر الفادحة التي يتلقّاها " جيش الدفاع " كما تسميه اسرائيل في القطاع .
من عدّل صورة اسرائيل ؟
الكيان الاسرائيلي يُفكّر بمكرٍ شديد , و يعي بأنّ ورقة ايران هي التي قد تعيده للمربّع الغربي و تنصفهُ تحت ذريعة المظلوميّة , لذلك حاولت تل ابيب ما باستطاعتها أن تستفز ايران باغتيال هنا و تصريح هناك , و ذلك لجرّ طهران نحو ردّ فعل يعيدها لحضن الغرب , و بعد أن ضربت اسرائيل مصالح ايران في دمشق و المبنى التابع لقنصليتها , استوجب على طهران رد اعتبارها , و هنا وقعت في الفخّ و المصيدة الاسرائيلية , فالاخيرة تعي أن بلاد فارس لن تتهور و تدخل في حرب حقيقيّة لا توقيت مسبق لها , و بهذا يصبح أي ردٍّ ايراني مهما كان بسيطا , سبّبا لعودة اسرائيل للغرب, و ذريعة لتكثيف الدعم لها لمواجهة " البعبع " الفارسي , اسرائيل علمت مسبقا أن الرد الايرانيّ سوف يرمّمها داخليا عبر اللُحمة الوطنية لمواجهة العدو التقليدي لها , و الشارع الاسرائيلي سيقف خلف حكومته , و خارجيا تعود اسرائيل لتناول العسل الغربيّ الدسم , لذلك ساهمت طهران برأب الصدوع الاسرائيلية على اختلافاتها.
لذلك اليوم و كل يوم يخسر نتنياهو المواجهة مع غزة , ليس بسبب غزة و صمودها و دفاعاتها القوية , فلنكن واقعيين بعض الشيء, غزة انهارت بشريا و عمرانيا و بالكاد نرى الصواريخ تنطلق منها نحو الكيان , بل خسر عبر ادارته الاجرامية للملف ككل , خسرت تل ابيب صورتها التي بنت شرعية الدولة العبرية عليها بعد " الهولوكوست " فالخلّ الذي سُقيَ منه اليهوديّ ظُلمًا في اوروبا بات يُسقيه بظُلمٍ إشد فتكا للانسان الغزيّ الاعزل في القطاع , فأي صورة هذه التي ستحافظ عليها اسرائيل؟
هي التي تعي بأنّها حتى لو قضت على حماس , ستبقى فكرة المواجهة و التحرير تتناقل عبر الاجيال , و ستنصف فلسطين عبر اجيال مختلفة عربية و غربيّة , حتى من داخل اسرائيل نفسها ستنتفض غدا الاجيال القادمة على ماضي دموي اقترفه الكيان تجاه غزّة يُعادل الهولوكوست إن لم يكن يفوقه !