انه القاضي الجنوب افريقي اليهودي (كما ينبغي التذكير) ريتشارد غولدستون, الذي انقلب على التقرير المعروف باسمه واكتشف متأخراً «حقائق» كانت غائبة عنه, فيمّم وجهه شطر الـ «واشنطن بوست» كي يعلن من على صفحاتها المقروءة جيداً وكثيراً «توبته» وليقل لأبناء «دينه», الذين لم يتوقفوا حتى الان باتهامه بأنه يهودي كاره لنفسه (بعد أن لم يعد بمقدور آلة الارهاب الاعلامي التي يديرونها بصلافة واستعلاء اتهامه باللاسامية), أنه بات محباً لليهودية ديناً وربما للصهيونية سياسياً.. القاضي المحترم الذي ترأس لجان تحقيق في جرائم حرب ضد الانسانية وحروب ابادة في رواندا ويوغسلافيا السابقة, وحظي بسمعة النزيه والمهني والحريص على تطبيق القانون الدولي وعدم السماح بتكريس ثقافة الهرب من العدالة, يبدو أنه وقع في الخطيئة بعد أن لم تعد لديه قدرة على الصمود أمام حملات التخويف والارهاب والاقصاء والعزلة وتشويه السمعة, التي لاحقه بها اساطين الصهيونية واذرعتهم الاعلامية واليساسية وحتى الدينية, حيث حاصرت الرجل ونكّلت به وحرمته (على سبيل المثال) من حضور حفل عمادة حفيده, الذي يقام بمناسبه وصوله سن البلوغ, وهو ما عبّر عنه بألم في تصريحات لوسائل اعلامية, اراد رصد ردود فعله على «الحرب» التي شنتها عليه الدوائر الصهيونية ورديفتها المتصهينة.
تَراجُع القاضي غولدستون، عبر المقال الذي تفوح منه رائحة الرضوخ أمام الضغوط أكثر مما هو ابداء فعل الندامة, لن يغير من الوقائع شيئاً فالأصل هو الصراع المحتدم بين منطق الاحتلال والاستيطان والقوة العارية, ومنطق الحقوق غير القابلة للتصرف لشعب تعرض لهجمة استعمارية احلالية واظبت على تحقيق أهدافها من خلال آلة القتل الحديثة, التي تتوفر عليها وبمساندة من دول الاستعمار الغربي الذين تتقدمهم الان الولايات المتحدة الاميركية, والتي يقف على رأسها (بالصدفة المحضة) رئيس حائز على جائزة نوبل للسلام, وهو الذي كان في وقت ارتكاب المذبحة التي حقق فيها غولدستون واسمها الكودي الرصاص المسكوب, «رئيساً مُنْتَخَباً، آثر الصمت على جريمة الحرب التي باركها سلفه المنصرف وقتذاك جورج بوش ووزيرة خارجيته كونداليزا رايس, حيث قالا في وقاحة: أن من حق اسرائيل أن تدافع عن نفسها, وها هو الحامل لجائزة نوبل للسلام يقول بعد عملية تفجير حافلة القدس قبل اسبوعين العبارة ذاتها, من حق اسرائيل أن تدافع عن نفسها، رغم أن احداً لم يتبن العملية, لكن العنوان, بالنسبة لاسرائيل, على الحائط.. انها غزة، حيث الضفة المحتلة يحكمها الثنائي عباس فياض, ويقول الاول في «فخر» انه لا يهمه أن تُمزّق صوره, فهو لن يسمح بأي مسيرة (فلسطينية شعبية وسلمية بالطبع) في اتجاه أي مستوطنة..
ما علينا..
صديقنا القاضي المحترم (لا داعي لنزع هذه الصفة عن الرجل الذي كتبنا المطولات عنه وعن نزاهته وانصافه) قال في مقاله الذي نشرته الواشنطن بوست قبل يومين «.. ربما أكون قد اخطأت بل لم يتردد في الاستطراد, لو كنت اعرف حينها, ما كنت اعرفه الان, لكان تقرير غولدستون-والقول له-وثيقة مختلفة»..
ما الذي يعرفه الرجل؟
تقرأ المقال فلا تجد سوى كلام عمومي يستخلص منه الرجل رأياً مفاده «ان اسرائيل لم تتعمد استهداف المدنيين»..
ليس مهماً أو مفيداً الان بدء حملة على الرجل, لأنه تراجع أو ابدى فعل الندامة، فالتراجع يخدم اسرائيل (رغم ان شمعون بيرس يطالبه بالاعتذار العلني عن تقريره), وهو ما قصده القاضي وإلا لاختار الصمت أو واصل الدفاع عن وجهة النظر, التي دأب على اطلاقها منذ ان سلّم تقريره لمجلس حقوق الانسان التابع للأمم المتحدة وعَرَضَهُ الاخير على الجمعية العامة, لكننا مدعوون للتوقف عند ابعاد الحملة الاعلامية والدبلوماسية التي سارع اليها بنيامين نتنياهو, مطالباً بسحب التقرير وارساله الى مزبلة التاريخ, مستعيداً في غطرسة، المقولة الكاذبة التي واصلها القتلة في اسرائيل ومن شايعهم, بأن الجيش الاسرائيلي هو الجيش الاخلاقي الاول في العالم، وان قادته وجنوده يحافظون على طهارة السلاح (..).
قول نتنياهو ليس موجهاً لنا, فكل العرب يعرفون اخلاقيته وطهارته لكن المطلوب الان التوقف عن اطلاق التصريحات الفارغة, التي تقول كل شيء ولا تقول شيئاً، كتلك التي يدلي بها اصحاب السلطة في رام الله, وخصوصاً انهم «هم» الذين كادوا أن يدفنوا التقرير ذاته رضوخاً لمطالب اسرائيل وضغوطها, لولا هبّة الشعب الفلسطيني وانصار الحرية، الذين «أحرجوا» القيادة واجبروها على اعادة طرحه في مجلس حقوق الانسان.
كذلك ثمة حاجة لفهم الآليات والمقاربات الدبلوماسية (والادارية) التي تَنْظُم استحقاقاً (جديداً) كهذا, وكيفية التعاطي معه، حتى لا نقع في مثل الخطيئة الكبرى التي ارتكبت بحق القضية الفلسطينية, عندما تم الغاء قرار الجمعية العامة للامم المتحدة (رقم 3379)، القاضي باعتبار الصهيونية شكلاً ممن اشكال العنصرية, وكيف ساهمت في ذلك دول عربية تصويتاً لصالح الالغاء أو امتناعاً (لا فرق).. رغم الفارق بين المسألتين، في المضامين والمرجعيات والوقائع والشكل ايضاً.
Kharroub@jpf.com.jo
(الرأي)