تم نسخ الرابط
إذا كانت أوجاع الجسد الكبيرة قادرة على اتبلاع أوجاعه الصغيرة وإلغائها؛ فإن الحروب لا تمتلك على أرض الواقع هذه الميزة، ولا يمكن لحرب أن تلغي حربا مهما تباينت بالكبر أو الصغر. الحرب حرب، وكل ما في الأمر أن حربا قد تغيب عن واجهة الأخبار ومانشيتات الصحف، مع أنها تبقى حاصودة لأرواح زارعة للمجاعات.
فبعد العدوان المجرم على قطاع غزة غابت تماما عن أسماعنا أخبار حرب السودان وانطفأت في مخيلتنا، دون أن تتوقف للحظة على ارض الواقع، بل ظلت تطحن البشر دون شاهد من بشر يؤمنون أن من غاب عن العين عن القلب يغيب أيضا.
وللحقيقة فالعالم كله، والعالم العربي والإفريقي، باتوا جميعا يطبقون نظرية من أهم النظريات التي تدار بها الحروب بين العسكر، وهي نظرية «إعطاء الحرب فرصة»، بمعنى أنَّ حلَّ مثل تلك الصراعات المتشابكة العويصة يكون بترك الحرب تستعر حتى تنهك الأطراف المتحاربة بعضها بعضا، وتنضج الثمرة.
لكن هذه النظرية الحقيرة تترك البشر يقتلون ويتشردون، وتحول الجميع إلى مشاهدين لا يشاهدون ومتبابعين لا يتابعون، لأنها تعطل عداد القتلى والمشردين في حساباتنا، وتجعلنا نظن أن الحرب خامدة وهي تستشري في أوصال الناس، ليتحقق القول إن الجرح لا يؤلم إلا من به الألم.
ومن باب رفع العتب، استضافت باريس يوما أمس مؤتمرا دوليا حول السودان، أي في الذكرى السنوية الأولى لبدء الحرب التي غدت أزمة منسية رغم أنها ذات عواقب إنسانية كارثية ومخاطر جيوسياسية كبيرة تصل إلى تفكك السودان وزعزعة استقرار القرن الإفريقي بكامله.
للأسف نحن نسينا ما لا يجب أن ينسى، فهذه الحرب التي نشبت بين الجيش بقيادة الجنرال عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة نائبه السابق الجنرال محمد حمدان دقلو المعروف بحميدتي، أدّت إلى سقوط آلاف القتلى ودفعت البلاد البالغ عدد سكانها 48 مليون نسمة إلى حافة المجاعة، ودمرت البنى التحتية المتهالكة أصلا، وتسبّبت بتشريد أكثر من 8.5 ملايين شخص، حسب تقديرات الأمم المتحدة.
محاولات كبيرة بذلت لوقف الحرب لكن دون جدوى، وقد يرجع السبب إلى أنها حرب مركبة لا تخمد إلا بخمود أحد الطرفين وترميده بعد ترميد البلد بكاملها، لأن حصانين لا يربطان على مذود واحد، وأن قبعة الجنرال لا تتسع لرئيسين طامحين بالسلطة.
السودان الشقيق مبتلى بهذا المرض الخطير منذ سبعة عقود. فبعد استقلاله عام 1956 بعامين انقلب العسكريون على الحكم منتزعين السلطة بكل دموية من المدنيين. ومنذ ذلك الوقت تدحرج البلد القارة إلى الهاوية الحمراء ببركات متوالية «انقلاب ينهي انقلابا»، وزعيم يخلع زعيما ويجلس مكانه بعد أن يملأ الأرجاء بفيض الدماء.
السودان منذ ذلك الوقت يعيش دوامة نظام حكم مضطرب، يجتث ما قبله، وينتظر من يجتثه، والثمن لا يدفعه إلا الناس على شكل دماء وآلام وضعف قدرات على مواجهة أبسط أشكال العيش.
الدستور