ناصر الدين الأسد .. القابض على جمر العربية
02-08-2007 03:00 AM
المدخل في الكتابة عن الأسد مربك، كما ان الحوار معه محفوف بالمخاطر، ولا أدري ما الذي يصلح مدخلا لسير عالم ومؤرخ ومحقق وأديب مثل الاستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد.
غير ان الوفاء يقتضي ان اقول بان الأسد مع كريم القابه كان سببا للكثيرين في فتح أفاق الاعتناء بالتراث وفي إضافة معارف كبيرة لهم. وإذا كان للأسد عنوان في مسيرة الحياة فهو الوفاء للعربية وأعلامها حدث ذلك قبل عقود مع استاذه طه حسين. عن علاقته معه بالقول: انه في آخر أيام طه حسين لم يكن احد يعود حسين ويساعده غيره".
علاف الأسد ببساطته ونفسه الطيبه وقامته الكبيرة، أذكلا حين بدأنا العمل معه في مؤسسة آل البيت وفي أول اجتماع صادف ان يكون صباح ماطر بعد انحباس المطر بدأ بالقول:"الناس سرعان ما ييأسون ولكن رحمة الله اسرع" كانت المناسبة فرصة للقاء بالأسد في إطار العمل الذي علق كثيرا على اسلوب العمل وكان على يمينه ابراهيم شبوح - المدير الحالي لمؤسسة آل البيت- وطلب ان يسمع منا أية مداخلات، فما كان مني إلا وأن بدأت بالقول: "انا موقن سيدي ان الحوار مع الأسد محفوف بالمخاطر..الخ"، ولما انهينا رد علي فقال: يا بني انت قلت: ان الحوار مع الاسد محفوف بالمخاطر -انا كنت اقصد جانب اللغة لانه يشدد على استخدام الفصحى- فقال: يا بني هل وجدت أسدا بمثل هذه الوداعة؟. ثم اخذ يشرح ويرد وانتهى إلى القول ما إلا من غزية.... ونظر إلى الاستاذ ابراهيم شبوح وقال له: اجلس مع الشباب.
غير ان للأسد الشديد طقوس جميلة في العمل ومنها اعتناءه بموظفيه واحترامه الشديد لهم والاصرار على تفقدهم قبل كل عيد، إذا كان يأتي دائما متأنقا يدحظ شيب العمر وأثر السنيين بضحكته الجميله، يسأل عن العمل ويطلب ممن له مشكلة عرضها، ثم يسلم مودعا.
بحسب احد طلبة الدكتوراه في الجامعة الاردنية في قسم اللغة العربية وهو ممن درس عليه واسمه مثنى الحباشنة، يملك الأسد الصرامة في الأداء والنقد غير المهادن، ولا يجامل في العلم والمعرفة ولديه حس من النبل والقيم المتقدة.
والأسد في عين طلبته لا يميل للخلاف ويرغب ان تكون معه في كل التفاصيل، وهو مراقب لطلبته بعين الناقد، ولديه إحساس عميق بمعنى الاستاذية.
من الناحية الانسانية فهم يرونه-طلبته- محبا لمساعدة الآخرين وصاحب قراءات عميقه جدا وإن قرأ فهو لا يقرأ بسطحية، ويبحث دائما عما يلتقي مع وجهات نظره ولا يأبه بالنقيض. ويضيف أحد طلبته الاستاذ الأسد "يكره الغباء والسطحية في الطرح، وينفعل على الطالب اذا كان الطالب غير مستوعب".
وهو لا يميل للباحثين المحدثين كما هو احسان عباس بل يرونه بأنه كلاسيكي يعشق النقد القديم مثل ابن قتيبة وابن طباطبا، وهو ليس حداثي رغم ما قدم من دراسات عن الأدب الفلسطيني وبخاصة القصة.
أما في الاشراف العلمي فهو صاحب قوة وخبرة شاملة وتقويمه للطلبة جيد. وفي اعين الطلبه يظهر حب الاستاذ وميله للمرأة فيجدونه محب للحياة ويحترم المرأة لكنه لا يميزها.
حين يقول الطلبة ان استاذهم ليس بحداثي وانه أميل للشعر والنقد القديم، فهذا يبدو صحيحا، فما بين مقدمة كتابه الشهير "مصادر الشعر الجاهلي " الذي عد يومها اصطفافا فكريا مع طه حسين استاذه يوم كان في القاهرة، وما بين كتابه الصادر مؤخرا عن امانة عمان بعنوان:"تحقيقات ادبية، صلة وثيقة تؤكد ذاك الميل وذاك الاختيار في ثقافة الاسد.
يقول أ.د ناصر اليدن الأسد المولود عام في 1922مدينة العقبة الحجازية – آنذاك- يقول في مقدمة كتابه مصادر الشعر:"صلتي بالشعر الجاهلي قديمة ترجع إلى اكثر من عشرين سنة أيام كنا نحفظ المعلقات فاستهوتني...ولكن استهواء الشعر الجاهلي كان يزداد حتى ليطغى على غيره.."
ويبدو ان طه حسين أشعل نار الاشتعال، حدث ذلك حين قرأ الاسد قبيل دخوله الجامعة كما يفيد في مقدمته المشار اليها،إذ ان طه حسين فتح أما الرجل آفاقا واسعة للتفكير وحمله لأن يستقصي الموضوع من جذوره. وهناك كانت بداية السؤال والمعرفة.
لكن طريق المعرفة بدت محيرة للطالب الذي جاء يومها إلى القاهرة منحدرا من اسرة متدينة يعمل ربها في دوائر التجارة وجمع الرسوم متنقلا من جدة إلى العقبة فالشوبك. وما كان للأسد في القاهرة إلا وأن يمضي قدما في مشروعه حتى إذا ما شرع بالقراءة واجهه الغموض وانفتح باب الحيرة عليه، مما جعله يقضي ثلاث سنوات يجمع مادة بحثة دون ان يخط شيئا.
في القاهرة اختط الاسد طريق وعرا وهو دراسة مصادر الشعر الجاهلي، التي كان طه حسين قد اشعل جذوة نارها. ومع أن الرجل فتح الباب الكتابة في العصر الجاهلي ثم دراسة مصادر الشعر الجاهلي وتدوينه والشك فيه والرواية والسماع ودواوين الشعر الجاهلي، وانتهى الأسد كما يقول في خاتمة بحثة القيم.:" وبذلك نكون قد وضعنا اصول مقياس واضح المعالم لدراسة الشعر الجاهلي ومعرفة صحيحة.
اذا حاول الرجل ان يعد ميزانا في المعرفة لدراسة الشعر الجاهلي، وهو صاحب منهج مقتن ولغة محبوكة الصياغة، ومفردات غاية في الدقة.
اعود إلى ما نشره الاسد مؤخرا بعنوان تحقيقات ادبية وكان قد نشر ايضا دراسة في مجلة العرب التي اعتاد ان ينشر بها منذ ان جمعته الصلة مع المرحوم حمد الجاسر في بيت العلامة المصري محمود شاكر، لنجد ان الاسد في هذا الكتاب الصادر مؤخرا يذهب ايضا إلى القديم فيدرس البطولة في الشعر الجاهلي والتراث والمجتمع الجديد وشعر حذافة بن غانم والعجير السلولي والنقط والحرف العربي، وغير ذلك من دراسات قال الاسد عنها:" هي فصول تباعدت أزمنتها وأماكنها وتعددت مناسباتها بدأت أولها بالكويت عام 1958 وانتهى آخرها سنة صدور هذا الكتاب 2006 في الرياض. وتفرقت فصولها الاخرى بين بغداد والقاهرة وعمان." (تحقيقات ادبية، ص،8)
بدا الأسد خطى المعرفة في مدرسة ابتدائية في مدينة العقبة سنة 1924 ثم رحل إلى الشوبك التي اصابها زلزال لا زال يذكره كما يذكر ان الجراد كان داهم المنطقة، ومن ثم عاد الجراد للمنطقة عامي 1929- 1930 مما حدا برئيس الحكومة حسن خالد ابو الهدى اصدار النظام الخاص بإبادة الجراد. وكان الفتى ابن الشيخ الازهري محمد بن أحمد جميل الأسد شاهدا على النازلة الكبرى التي عمت المنطقة، وكان شاعر الاردن الكبير عرار نصطفى وهبي التل آنذاك مديرا لناحية الشوبك -أعني سنة 1930- ويمضي الأسد بوصف مشاهد الجراد بقوله:" سار الناس على أكله، وكنت من الذين أكلت الجراد في طفولتهم ".
ثم بين اين مضى الاسد بمشروعه هذا الذي كان قد بدأه في فترة مبكرة؟.
وصلت عائلة الأسد عمان مع بادية الثلاثينات وسكنت في بيت لأحد الشراكسة وكانت عمان بحسب الأٍسد عام 1933 غزيرة المياه وفيها ينابيع يصطاد بها الصبية السمك ويطاردون البط.
وما مضت شهور حتى رأى والد الدكتور ناصر الدين أن من المهم الحاق ولده بالمدرسة فكانت كانت أول مدرسة التحق بها مدرسة تجهيز عمان ثم مدرسة العجلوني، ثم ما لبث ان انتقل إلى مدرسة السلط الثانوية التي تعد من المدارس الأولى في الاردن أضافة إلى مدرسة الكرك.
والتحق الشاب بعد ذلك بالكلية الإبراهيمية في القدس وقضى فيها أربع سنوات نال فيها شهادة "المترك" ودبلوم التربية والتعليم ليغادر بعدها إلى القاهرة ويلتحق بجامعة فؤاد الأول عام 1943 في كلية الآداب وهو يصف بداياته بالقول:" أعفيت من دراسة السنة الأولى لأنهم عادلوها في السنتين الدراسية في الكلية الإبراهيمية".
بين التخرج من الدراسة في القاهرة على اساتذة كبار امثال شوقي ضيف الذي اشرف على بحثه في مصادر الشعر الجاهلي والاستاذ مصطفى السقا والدكتور عبداللطيف حمزه والسباعي بيومي وهم اعضاء لجنة مناقشته للدكتوراه، حصد الاسد صداقات كبيرة جمعت بين طه حسين والعقاد وحمد الجاسر ومحمود شاكر ونقولا زيادة وغيرهم ممن غادروا الدنيا رحمهم الله، وكان الاسد اول اردني يتخرج من جامعة القاهرة بدرجة الدكتوراه سنة 1955.
لم يكن الاسد طالبا وحسب في القاهرة، بل ناشطا ثقافيا إذ فاستفاد من مجالس أحمد شوقي والشايب إضافة إلى الجلسات والمحاضرات في كلية الآداب وهو مواظب على حضور الندوات التي كان يأمها الأدباء وفي طليعتها ندوة التأليف والترجمة.
واحب احمد امين الذي كان يدرسه النقد الأدبي في كلية الآداب وربطته علاقات وطيدة مع محمد سعيد أبو حديد، وأحمد حسن الزيات، وزكي نجيب محمود، والدكتور محمد عوض وغيرهم وفي مصر احب وتزوج من أم بشر.
يعد الاسد مؤسس لابرز جامعة في الاردن وهي الجامعة الاردنية وهو لم يكن في العطاء اردني الهوى وحسب، بل انه اعطى واسس عدد من المؤسسات التعليمية والثقافية والفكرية في الأردن ومصر وليبيا والمغرب فهو الرئيس المؤسس للجامعة الأردنية، والجامعة الليبية ومؤسسة آل البيت.
تنوعت معارف الاسد بين الدراسات النقدية والتحقيق التاريخي والتأليف المتخصص والمحاضرات والابحاث التي يواضب على نشرها دوما في الدوريات المحكمة، وزاد انتاجه العلمي على اكثر من تسعين عملا بين التأليف والتحقيق والعمل النقدي.
واذا سألنا عن علاقته بالشعر فلا احد يذكر ان للرجل شعرا غير سائقة الخاص الذي كان يعمل معه في مؤسسة البيت الذي افادني ان ذات مرة كان يوصله للمطار فجرا وفي الطريق كان الاسد ينشد شعرا، وحسب السائق انه ساله عن كاتب الشعر؟ فاجابه: انه له.
يعرف الأسد بانه انفرد بعلاقة مع طه حسين كانت بدأت حين عمل موظفاً بدرجة ملحق أول بالدائرة الثقافية في جامعة الدول العربية عام 1954 حين كان الدكتور طه حسين رئيساً للجنة الثقافية الدائمة، وأصبح الاسد يتردد على دار طه حسين لمدة عشرين سنة، وهو يقول:"كنت أؤم مجلسه حين لم أكن أجد لنفسي موطئ قدم فيه، استمريت أؤم مجلسه وليس فيه سوانا هو أنا وحدنا بعد ما مرض".
وله صلة قوية مع عباس محمود العقاد من خلال حضوره للندوة المشهورة التي كانت تعقده أسبوعياً في بيته والتي كانت تطرح قضايا عديدة، يقول عنها:" فقد كانت هذه الندوات المجالس مهمة جداً خاصة ما يتعلق بالشعر الجاهلي، ولم أرى في حياتي أستاذاً يحفظ الشعر الجاهلي ويحسن تذوقه كالأستاذ محمود محمد شاكر".
مؤخرا انظم الأسد إلى مجلس أمناء مؤسسة حمد الجاسر الثقافية التي يشعر تجاهها بضرورة الوفاء لذكرى عالم من علمائنا ممن كانوا في طليعة الذين أنشؤوا الصحافة في المملكة العربية السعودية، وهو يرى في حمد الجاسر أنه "كان حجة لا يجارى في موضوع أنساب القبائل العربية وتحديد المواقع الجغرافية"
يحب الاسد الحياة ويكره التعامل مع الاشياء بخفة فهو صاحب ذوق ورؤيا ثاقبة، ومن يفترب منه قد يتوجس هيبته لكن وراء هذا الأسد المهيب إنسان وديع ومحب للخير وناطق بالعربية بشكل سليم في زمن كثر في اللحن وأوشكت العربية على السليمة على الضياع.
أنه طود كبير أينما ذهبت تجده في كل جهات المعرفة في الشعر والادب والتاريخ والترجمه والنقد، وبرغم كل ما يدهمنا من حداثة إلا ان الأسد يعد بحق قابظ على جمر العربية ولسانها.