الأمير الحسن بن طلال لا يخفي انزعاجه, كحال سائر الأردنيين, من فشل برامج إصلاحية وخطط التنمية التي أغفلت ربط الأرقام والإحصاءات بحياة المواطن اللاهث وراء لقمة الخبز في بلد تتآكل فيه الطبقة الوسطى, عماد الأمن والاستقرار.
وهو ينظر بألم إلى تداعيات أحداث الجمعة الحزينة بين شباب "24 آذار" المنادين بإصلاح النظام وشباب من مهرجان "نداء وطن" الداعم لرؤى التحديث الملكية.
في حوار مطول مع كاتبة المقال قبل أيام, عبر الأمير عن مشاعر مشابهة للحسم الذي عكسه الملك عبد الله الثاني خلال لقائه أعضاء لجنة الحوار الوطني يوم الثلاثاء, حين دان الأحداث المؤسفة وما تبعها من إساءة للوحدة الوطنية. إلى ذلك حثّ على فتح صفحة جديدة أساسها الحوار وصيانة النسيج الوطني, للمضي قدما صوب التحديث.
بعد تلك الفزعة والتوتر لا بد من الانفراج, ذلك أن الخير سمة أصيلة في المجتمع, والشرذمة بعيدة عن شمائل الأردنيين, وحتى عن الشارع العربي والإسلامي, بحسب ما يرى الأمير المفكر, 64 عاما, وهو شاهد رئيس على أحداث مفصلية عاشها الأردن منذ منتصف القرن الماضي.
عبد الله الثاني, على غرار ملوك بني هاشم الذين تربعوا على سدة الحكم منذ نشوء الأردن الحديث, يدرك الحقائق المرّة ويقف إلى جانب الإصلاح كما يحرص على احترام الدستور وتطبيقاته ويتحدث عن التزام السلطات به. وبالتالي, يشكّل الملك, بحسب الأمير الحسن, ضمانة لما يطمح إليه الشعب. فهو سليل الهاشميين ممن أرسوا أسس الملكية الحديثة بعد انطلاق الثورة العربية من الحجاز, في دمشق ثم في عمان وبغداد. ويستذكر الأمير الكاتب والباحث المدى التقدمي الذي وصلت إليه الدولة الفيصلية في سورية ثم العراق آنذاك والعبدلية في الأردن, وكيف كانت سبّاقة لطرق أبواب التغيير والإصلاح, قبل أن تستهدف نتيجة الضغوط الخارجية المرتبطة بقيام دولة إسرائيل عام .1948
برأي الأمير, ليس في الأردن من يختلف حول مظلة الأسرة الهاشمية في مفهومها العصري وشخص الملك "المعقل لشغف المواطنين". فالعرش عصب معادلة تصالحية بين فئات المجتمع, حيث تتداخل الخطوط الحمر بسبب الخطر الخارجي أكثر من الخطر الداخلي.
الحسن بن طلال- الذي يرأس منتدى الفكر العربي منذ أسسه عام 1981 ويقود عشرات المبادرات الدولية في مصلحة الإنسانية, الازدهار والتقدم- يحمل أيضا مواقف قد تصل بالأردن إلى التحديث السياسي, الاقتصادي والاجتماعي الذي يستحق.
يتكئ بذلك على عديد مبادرات إصلاحية طرحت خلال السنوات الماضية, بدءا بالمخاض السياسي الذي رافق خيار الديمقراطية عقب أحداث ,1988 وحراك اللجنة الملكية التي وضعت ميثاقا وطنياً عام ,1990 أعاد تأكيد وفسّر قواعد الدستور نصا وروحا. وأجمع الأردنيون على قبول تلك المبادئ خلال مؤتمر وطني عقد في ذلك الوقت بمشاركة 100 شخصية تمثل الطيف السياسي والحزبي, برئاسة رئيس الوزراء الأسبق أحمد عبيدات.
"أنا مع العودة إلى دستور 1952 وتفسير بنوده من خلال الميثاق الشامل والواضح", يقول الأمير, مردفا: "لماذا لا نعزز الثقة من خلال مبادرات آمنة تخاطب الهواجس الإقليمية, الجهوية والأقليات"? لا يشاطر الحسن بن طلال الدعوات إلى إصلاح الدستور, معتبرا أن لجنة الحوار الوطني التي شكلت أخيرا قد تشكل أداة لتنفيذ شروحات الميثاق الوطني وصولا إلى تفعيل الدستور. "إنجاز الميثاق مهم لأنه يمثل توافقا بين النظام وألوان الطيف السياسي, يمين, وسط ويسار ويضع أسس العلاقة لهذه المكونات الثلاثة بالاستناد إلى الدستور في دولة القانون".
إحياء لذكرى والده وتجربته القصيرة في الحكم, يجّهز الأمير احتفالية في 8/1/2012 بذكرى مرور 60 عاما على سن الدستور لتوعية الناس بأهمية هذا العقد الاجتماعي وتوضيح رسالة الدولة بمكوناتها كافة.
ويرى أن الإصلاح يكمن في تفعيل الدستور وعرض الميثاق على استفتاء شعبي مع تطبيق اللامركزية على مستوى المحافظات وبعض توصيات اقتصادية واجتماعية تتضمنها الأجندة الوطنية, وهي خارطة طريق رسمت عام 2005 حزم إصلاحات متكاملة للسنوات العشر المقبلة. ويركّز أيضا على استقلالية السلطات من خلال تحديد الفواصل بين قطاعات الدولة - العام (عسكري وحكومى) وقطاع الأعمال والمجتمع المدني.
يتساءل الأمير لماذا يحمل الملك مسؤولية برنامج الحكومة حين يلقي خطاب العرش, داعيا الحكومات إلى تحمل مسؤولياتها بعيدا عن إثقال كاهل الملك, رأس السلطات وصمام الأمان.
في السياق ذاته "آن الأوان لتأسيس مفوضية مستقلة دائمة للانتخابات تعمل بنزاهة بعيداً عن سائر أجهزة الدولة" من أجل ضمان فرز مجلس نيابي مستقل عن هيمنة السلطة التنفيذية. كذلك من المستحيل أن تقدم السلطة التشريعية على تمرير رزم إصلاحية وهي تلتئم لمدة أربعة شهور فقط ومتخوفة حيال مستقبلها وقلقلة لتغيير الحكومات"..
ثم هل يعقل أن يكون وزير العدل رئيس الهيئة المشرفة على تطوير القضاء?
تحديد من هو المواطن الأردني سيكون مفيدا لحسم أزمة الهوية من دون الانتقاص من حقوق العودة والتعويض. ويرى أن الخطر الداهم هو سياسة "المصادرة الزاحفة" التي تنتهجها إسرائيل في الاستيلاء على الأراضي الفلسطينية, لافتا إلى أن الأردن ينوء تحت ضغوط المتغيرات الديمغرافية. ففي غياب قاعدة بيانات معرفية من الصعب تحديد من هم الأغلبية أو الأقلية. وعلى أي حال, الموضوع هو كيفية تفعيل المواطنين بغض النظر عن أصولهم لتعميق الاستقرار الداخلي لدولة الرباط ما بين النفط وإسرائيل.
يوجه الأمير اللوم إلى جهات خارجية تروج منذ سنوات بأن الأردن غير قائم على أسس ديمقراطية سليمة لأن غالبية سكانه من "أطر فلسطينية". وبالنفس ذاته, ينبه المجتمع الأردني: "بالقدر الذي تستطيعون فيه تنظيم أنفسكم داخليا ستستطيعون مواجهة الخطر الخارجي". فاستمرار الوضع القائم وإغلاق النوافذ والأبواب في وجه الإصلاح, حسبما يروج له متنفذون يختبئون وراء الملك, لن يجلب الاستقرار.
في فصله السابع والأخير المعنون: العلاقة الأردنية-الفلسطينية" ينص الميثاق الوطني: "الهوية العربية الفلسطينية هوية نضالية سياسية, وهي ليست في حالة تناقض مع الهوية العربية الأردنية ويجب أن لا تكون. فالتناقض هو فقط مع المشروع الصهيوني الاستعماري". ويخلص هذا الفصل إلى الاستنتاج بأن "الوحدة الوطنية الأردنية هي القاعدة الصلبة التي تقوم عليها العلاقة الوثيقة بين جميع المواطنين في الدولة الأردنية. كما أن استحالة الفصل على ارض الواقع بين المواطنين من أبناء الشعب الأردني على اختلاف أصولهم يستلزم حماية هذه الوحدة وترسيخها, بما يعزز منعة الأردن (..) ويحمي جبهته الداخلية".
إلى جانب هذا الفصل يحوي الميثاق الوطني مقدمة تاريخية وفصولا تحت عناوين "الميثاق- أسباب وأهداف, دولة القانون والتعددية السياسية, الأمن الوطني الأردني, المجال الاقتصادي, المجال الاجتماعي ثم الثقافة, التربية, العلوم والإعلام".
دستور الأردن, الذي يعتمد الأمّة مصدرا للسلطات, من أعرق الدساتير العربية وأكثرها تقدما وديمقراطية وضمانة للحقوق والحريات الأساسية, قبل أن يدخل عليه 29 تعديلا كانت مبررة في حينه بسبب الاضطرابات في الإقليم; لا سيما خلال أحداث 1954 و1956 و .1967 ويؤكد الأمير أن التعديلات لم تعد ذات صلة أو جدوى في الظروف الراهنة.
"من الناحية الدستورية لا يوجد ما يمنع رئيس الوزراء من أن يمارس صلاحياته كافة بالتفاهم مع العرش الذي يمارس دور السلطة المعنوية من خلال التكامل والتضافر مع أركان المعادلة الدستورية: السلطة التنفيذية, التشريعية والقضائية", حسبما يشخص, السياسي السابق. لكن في العقود الأخيرة بدأت الحكومات تحتمي وراء العرش بدل مواجهة مسؤولياتها بالتشارك مع المجلس التشريعي ومعالجة القضايا الساخنة بما فيها السياسية-الاقتصادية-الاجتماعية-الأمنية وقضايا الهوية والديمقراطية. وبالتالي تراجع مفهوم الحاكمية السليمة وتنامي الفساد.
الثورات التي تجتاح العالم العربي منذ رحيل زين الدين عابدين بن علي تكسر القناعة الغربية بأن إسرائيل هي الدولة الديمقراطية الوحيدة في هذا الإقليم المضطرب. قد يكون الحكم على نتائج التغيير في مصر وتونس سابق لأوانه. لكن فكرة إقامة ديمقراطيات عربية قد تقلب معادلة العلاقات السياسية الغربية والدولية مع إسرائيل, المرشحة لاضطرابات مماثلة بسبب موزاييك مجتمعها المتنافر.
ويرى أنه بدل الخوف من المجهول ومآلات هذه الثورات, أمام الأردن فرصة لتعزيز التحديث. "فالخوف يؤدي إلى التقوقع والالتفاف الشللي وإلى نهاية الانهيار إذ يبدأ الانهيار بالخوف والتشكيك".
في نظر الأمير: "نحن بحاجة إلى رؤيوية وليس إلى رعوية".
يبدي الأمير استياءه من التصنيفات الإثنية: "فالبعض يقول إن أمثالي من الحجاز دخيل ومن أتى من سورية دخيل ومن فلسطين دخيل". ثم يتساءل "هل علينا العودة إلى الحجاز"? ويخلص إلى القول: "إما نعيش أو نقضي معاً. خلينا نفسر الوحدة الوطنية. وما عندنا وطن غيره. الجو المسموم والمتوتر الحالي لا بد أن لا يخلو من أصابع ترغب في تحويل مسارات الثورة الشريفة".
ويختم الأمير حواره بالتساؤل: "من قال إن من يدعو للإصلاح ليس مخلصا, إذا كان الملك بنفسه يريد الإصلاح"? وينّبه إلى أن "الخطر الحقيقي في استمرار الوضع القائم وتغييب الصالح العام ومفهوم الخدمة العامة". ويتساءل أيضا "أين سيادة الدولة, وقد غيبت عندما تغير الصالح العام"?
وبعد, ألا يمكن الاستفادة من خبرة, حنكة وحكمة هذا الرجل, الخزان الفكري, الذي خدم العرش والوطن على مدى عقود في ظل الملك الراحل الحسين بن طلال?0
rana.sabbagh@alarabalyawm.net
(العرب اليوم)