في صيف سنة 1997، ذهبت وصديق لي لزيارة أحد أقاربه الساكن في أحد المخيمات الفلسطينية في إحدى الدول العربية، وبعد الكثير مِن الكلام الذي لا يكاد يخلو مِن تصوير صعوبة الحال التي يمرون بها كلاجئين في ذلك المكان، وحين هممنا بالمغادرة سار معنا صاحب البيت لبضع دقائق خارج بيته، فرأى أحد رجال الأمن يقف على إحدى زوايا المخيم، فسألنا قائلاً: أترون رجل الأمن هناك ؟ وقبل أن يسمع الجواب أردف قائلاً: إنه يستطيع بمفرده أن يتحكم بكامل هذا المخيم ويسوق سكانه أمامه بإشارة واحدة مِن يده (أو بمثل هذا المعنى) ..!
وبطبيعة الحال أثار استغرابنا هذا الكلام المليء بالمرارة والألم على واقع حال اللاجئين الفلسطينيين هناك ..! موقف لا زلت أذكره طوال هذه السنين ..! ولا زال يمر في ذاكرتي كلما رأيت طيب عيش وحُسن معاملة مَن لجأ إلى أرض الأُردن هارباً مِن عدو لا يرحم وآلة قتل لا تهدأ ..! فالصورة في هذا الوطن في معاملة أخوتنا المهاجرين إلينا مِن غرب النهر مغايرة تماماً عن تلك الصورة في أي مكان آخر ..! صورة يتجلى فيها الانصهار الروحي في كل بقعة مِن هذا الوطن ..! صورة يفوح منها عبق رائحة شهداء الأُردن على أرض فلسطين وعلى أسوار الأقصى ..! صورة تتجلى بوحدة مكان وإنسان وعنوان، مِن جنوب العز وحتى سهول حوران..!.
كم هو مُخطئ مَن يحاول قاصدًا أو بلا قصد زعزعة هذه الوحدة أو التشكيك بمواقف هذا الوطن تجاه أهلنا في فلسطين، مواقف سَنَّها القائد فدخلت وجدان كل انسان على هذه الأرض، مواقف لا غاية لها إلا تجسيد وحدة الروح والهَمّ والهدف، مواقف تخلّى عنها الكثيرون إلا مِن أصوات أبواق ينتهي مداها مِن حيث بدأ ..! فَنَطَقَ الأردن حينها بالصوت الصادق بإحساسه والصدى ..!.
إن مشكلة الكثيرين أنه ينظر بعين واحدة لكل ما هو حوله ..! فلا يرى إلا ما يريد أن يراه، ولا يسمع إلا ما يريد أن يسمعه ..! وكأنَّ الأمور لديه تُوزن بكفَّةٍ واحدة، فلا يريد أن يصل إلا للغاية التي أراد، أو للفكر الذي يؤمن به ..! فتضيع بوصلته بين الواقع والمأمول، وبين إحساس تناقض معه الفعل والقول ..!.
طوال سنين خَلَت مِن عمر هذا الاحتلال ما تردد قادة هذا الوطن ولا مواطنيه مِن مَدِّ يَد العون لإخواننا على أرض فلسطين، إلى أن وصل الحال إلى الأرواح التي قُدِّمَت فارتَقَت دفاعًا عن تلك الأرض في باب الواد واللطرون والشيخ جراح وجبل الزيتون، أرواحٌ لا تزال شواهد قبورها شاهدة لها ولهذا الوطن على تجسيد معنى وحدة الأرض والانسان، شاهدة على ما قدمه الأردن ويقدمه دون مَنٍّ ولا أَذى، ودون رجاء شكر مَن الذي مَدَّ عينيه له وإرتجى ..!.
إن هذا الوطن يعلم أن المأمول كبير، إلا أن للواقع ضريبته ايضًا، فَطَوق النار حوله يُهدد كل سكينة لديه واستقرار، وقلاقل حوله تتربص له خلف الأسوار ..! مقدراته تَئِن حين تحاول توفير لقمة عيش وساعة أمان على أبواب كل بيت ..! حتى صار هذا الوطن كقاربٍ صغير في أُتونِ بحر هائجٍ تتلاطم به الأمواج مِن كل حَدبٍ وصَوب ..! فيأتي إليه بعد طول سُبات شخص غائب عن الواقع يطلب منه أن يُحَلِّق في السماء فرارًا مِن هذا الموج ..! بالوقت الذي لا يرتجي رُّبّانُه إلا أن يبقى سائرًا فيه إلى بر أمان لا زلزال يَمسّ أرضه ولا بركان ..!.
أرجوك أيها الغاضب (وكلنا غاضبون والله) إرحم هذا الوطن مِن مغامراتك وشطحاتك، وانظر إليه بكلتا عينيك لا واحدة، تظاهر واعتصم كما تشاء، أرفع يدك شجبًا واستنكارًا لكل قطرة دم سالت مِن جسد طفل على أرضنا هناك، إلا أن اليد الأخرى ضعها بيد مَن أتى ليحميك حتى مِن نفسك، ويعيدك سالمًا إلى بيتك وأهلك ..! وتذكَّر أنك تعيش بكرامةٍ بيننا، في وطن يحتضن كل مَن مَرَّ مِن هُنا ..!.