في هذه الأوقات تبرز الحاجة ماسة إلى الرموز الوطنية الحقيقية، ولا أقصد بالرموز الوطنية هنا النقوش، والتماثيل الحجرية والعملات المعدنية القديمة، والشعارات والأحداث الغابرة، والزهرة الوطنية، والطائر الوطني، والأكلات الوطنية واللباس الوطني... وغير ذلك مما يعتز به الإنسان من تراث الآباء والأجداد أيما اعتزاز ، ولكنني أعني بالرموز الوطنية هنا البشر من الرجال والنساء الأحياء الذين لديهم إحساس بالمسؤولية والإخلاص تجاه الوطن، وقائد الوطن وهموم المواطنين في السر والعلن، من أصحاب الهمم والمبادرات الذين لا ينتظرون تكليفا، أو إيعازا، ممن يتطوعون للانخراط في كل جهد وطني نافع يخدم رسالة هذا البلد ويحقق رؤية قيادته الرشيدة، بعيدا عن الشعبوية والنفاق والرياء وتحقيق المكاسب السياسية... من مواقعهم حيث يكونون، من غير ضرورة لأن يكونوا نوابا أو وزراء أو أعيان أو مسؤولين، أو ذوات، وليس ثمة ما يمنع من أن يكونوا كذلك، فما أحسن الدين والدنيا إذا اجتمعا!
وفي كل الأحوال فإننا نحتاج إلى نماذج من هؤلاء؛ نماذج تعطي أكثر مما تأخذ، غنية من الداخل، وإن لم يظهر عليها الغنى من الخارج، لا تكرس حياتها لجمع المال وتكديسه إلا بما يكفي لحياة بسيطة كريمة، نماذج ثمة متسع في عقولها للتفكير بأشياء أخرى غير غرائز الاستهلاك والمتعة المتوحشة، وجنون العظمة، والسطو على الحاضر والمستقبل، والتعامل مع الوطن على أساس براجماتي مقيت، نماذج تسعد الآخرين، أو تهد ئ -على الأقل- من مخاوفهم على مصائرهم، وتمنحهم الحق في الشكوى، نماذج في وجدانها مساحات نظيفة غير مصنعة، لايعبث بها الطمع والأنانية، يحدوها الأمل، حين يكون ممكنا تحقيقه بالعمل، تقبل أن تتقدم حين يوجب عليها الإحساس بالمسؤولية ذلك، وتتراجع حين تفيض فيها ينابيع التواضع والإيثار والإنسانية، تشبه السواد الأعظم من الناس في البساطة والقناعة والرضا، لكنها تطفح بالعزة والأنفة حين يهم الملتاثون أن يعقروا الوطن، أو يسيؤون لقيادته الأمينة على حاضره، ومستقبله وشعبه،لا يصعرون للناس الخدود، ولا يتعالون بالجدود، أناس لا تعيا ألسنتهم بقول الحق، لا يؤمنون بالخلاص الفردي مهما كان مغريا وجذابا، يصرون على أدميتهم وإنسانيتهم في أصعب المواقف، أنقياء ونبلاء لا يتقنون التلون كما يفعل السياسيون المتكسبون، لديهم مساحات روحية ونفسية تتسع لمحبة الوطن لأجل عيون الوطن وقائد الوطن، قلوبهم ليست غلفا، بل بيضاء يمكنها أن تخلص وتحب، وتمضي في درب العطاء والبذل مها كان صعبا، رجال تجردوا من حب الذات فانصهروا وذابوا بين الناس حتى لا تكاد تراهم؛ لانعدام كل علامة تميزهم عن غيرهم.