يشعر المصري أنه ولد من جديد، وتشعر منذ ان تضع قدمك في مطار القاهرة ان كل شي قد تغير: موظف الاستقبال يلقاك بابتسامة عريضة، وينجز معاملتك في ثوان معدودة، سائق التكسي يروي لك قصته مع “الثورة” ويشرح الحدث بتفاصيله الدقيقة، وترى في عينيه بهجة لا يستطيع ان يخفيها، بائع “العصير” يصرّ على استضافتك وحين تريد ان تحاسبه يفاجئك بالرفض ويقول: هذه ضيافة باسم الثورة.. تكتشف بأن نسائم ربيع الحرية التي هبت على المصريين قد لطفت كل شيء، الطقس اصبح لطيفا، والشخصية المصرية تبدد عنها الجفاف والغبار، والشوارع نظيفة، وسعادة الناس لا توصف، انتهى زمن “التحرش” والبلطجة والفشل، لا يسمح لأحد ان يعتدي على “زائر” او ان يستغله، لا يراودك الخوف وانت تتجول في الشوارع، رجال الأمن الذين انتشروا في الطرقات مثل ملائكة الرحمة، حركة السير منتظمة والمخالفات توقفت، ما زال الجميع يعيش “حلم” الثورة، وكأن ساعة الخروج من الحلم لم تدق بعد.
هي الحرية –إذن- تراها بعينيك في “ميدان التحرير” هذا الذي تحول الى رمز ومزار، وتلمسها تنبض في كل وجه تلمحه، وتقرأها بحروف نافرة في عيون الصغار والكبار، هي الحرية لا غيرها، افرزت من الناس افضل ما فيهم، واصبحت داخلهم أملا كادوا ان يفقدوه، واعادت الى “مصر” روحها وعمرها الذي ضاع في الطرقات المعتمة، هي الحرية تراها –وكأنك لم ترها من قبل- ترفرف بجناحيها فوقك، فتغمرك بالدهشة، والمحبة وتصعد بك الى الفضاء، فتظن انك غادرت جسدك الثقيل واصبحت تطير في الهواء.
في بلاد اخرى، رأيت الحرية وقابلتها وجها لوجه، لكنها لم تدهشني، ربما لأنها “معلبة” او “مغطاة” بمواد صناعية لا اعرفها، لكنها المرّة الاولى التي ارى فيها الحرية “طازجة” مثل “الخبز الساخن” حين يقع بين يدي جائع، مثل الولادة الاولى التي تفاجئك وتسرك في آن، مثل ضوء الشمس الذي يتسلل من بين الغيوم.
لا يكفي أن تقرأ عن فقه “الحرية” ولا عن ادبياتها، لا يكفي ان تشم رائحتها من بعيد، ما تحتاجه دائما هو رؤيتها والتقاط اشعتها والاستمتاع بحرارتها ومصافحتها بيدك، عندها تدرك فقهها الحقيقي، وتدرك براءتها وقوتها، ضعفها وعنفوانها، قدرتها على الحركة والتغيير. وتدرك –ايضا- معنى غيابها او “ثمن” افتقادها الطويل.
في مصر، وغيرها من اقطارنا العربية التي تحررت من عصور الكبت والقمع، تنتصب الحرية في كل مكان، وتسمع اصواتها على كل لسان، وتراها في وجوه الناس الطيبين، وتشعر بها كما تشعر “بدقات” قلبك حين تتحرك او تمشي، لكن اخشى ما اخشاه ان تكون “الحرية” ضيفا لا تطول اقامته، او “سحابة” عابرة سرعان ما تمضي، اذا لم نتعهد هذه الروح التي انطلقت ونحضنها بما يكفي ونمنع عنها غوائل العابثين والفاسدين.
(الدستور)