صراعنا مع الكيان ليس وليد اللحظة، فهو يمتد لأكثر من مئة عام، كان الأردن خلالها، في عهد الإمارة الفتيّة وعهد الدولة الناجِزة، دوماً في الواجهة، يتصدى ببسالة وأصالة واحترافية، وبكل السّبل المتاحة، دفاعاً عن فلسطين، وعن حقوق الأمة.
وكان دوماً يردد، وما يزال، "القضية الفلسطينية قضية العرب الأولى"؛ وقد دفع الغالي والنفيس في سبيل ذلك، بما في ذلك حياة مليكه المؤسس، عبد الله الأول، الذي استشهد على ثرى فلسطين، وفي القدس تحديداً، باحثاً، لآخر لحظة من عمره، عن حلّ مشرّف للقضية؛ بعقلانيةِ وحكمةِ الكبار.
وحمل الراية من بعده، وسار على نهجه، وهو النهج الأنضج والأعقل والأنجح، الملك طلال ثم الملك الحسين، رحمهما المولى، ثم الآن عبد الله الثاني، أعزّ الله مُلكه وأمدّ في عمره.
المتابعُ للدبلوماسية الهاشمية، من عهد الشريف حسين لعهد عبد الله الثاني، يجد أن الأولوية الأولى كانت وما زالت: فلسطين. أجزم بأنْ لم يقترب منها أولوية أخرى، داخلية أم خارجية، إذ قدّمها الأردن ويُقدّمها على كلّ أولوياته.
وهذا دَيْدَنهُ؛ ومن ينسى ذلك أو يتناساه فعليه أن يتذكّر؛ وإن تغاضى نُذَكّرهُ نحن الذين نؤمن بهذا البلد، مليكاً ودولةً ونهجاً.
نسوق هذه المقدمة لنقول:
إنّ كل مواطن أردني وعربي حرّ، لا بل وكل إنسان حرّ في هذا العالم، حزين الآن ومصدوم وغاضب إزاء ما يتعرض له الأهل في غزة من إبادة وفي الضفة من تضييق وعنف وقتل. فالذي يحصل لا مثيل له، فهو قمة الشر والجُبن والخِسّة.
بَيْدَ أن السؤال المهم الآن هو: ماذا نفعل؟ كيف نتعامل مع هذه الإحداث غير المسبوقة في همجيتها؟
نفعل الآتي:
أولاً، الوقوف بعزم وثقة وإيمان خلف مليكنا المفدّى، قائد الوطن المُخلص الوفيّ الإنسان، صاحب الرؤية الثاقبة، نستلهم منه المبادرة والفعل، ونأتمر بأوامره، ونسانده في كل ما يفعل؛ نكون عوناً له، لا عبئاً عليه.
منذ بداية المأساة لم يغمض له جفن، وهو يصل الليل بالنهار، يعمل على كل الجبهات، دبلوماسياً وإنسانياً، حاملاً همّ القضية. ولقد وظف كل طاقاته وخبراته ودبلوماسيته، وعلاقات الأردن الطيبة، من أجل الإتيان بالفرج.
والمهم التأكيد هنا أن جلالته يعمل في إطار نهجٍ احترافي، استمده من تجربته العميقة وورثه عن آبائه وأجداده العارفين الحكماء؛ وأهم ما يميز موقفه قراءته الدقيقة للأمور وحكمته وواقعيته، وهي ذات القراءة والحكمة والواقعية التي بنت هذا الوطن ورعته وحمته وأكسبته مكانته المرموقة.
ثانياً، الثقة بالدبلوماسية الأردنية التي تُمثلها مؤسسات الدولة المُتابعة لكل شاردة وواردة، والحريصة على فعل كل ما يتوجب فعله للتخفيف عن أهلنا في غزة والضفة، وحشد التأييد العالمي للقضية، لإحقاق الحق وإبطال الباطل، بأسلوب دبلوماسي محترف. وكل مؤسسات الدولة تعمل باحترافية وتفانٍ وعلى كافة الصّعد.
ثالثاً، الاعتزاز بقواتنا الأمنية الباسلة، وتثمين دورها في حمايتنا وحماية الوطن والسهر على راحتنا؛ وأي تطاول عليها هو تطاول علينا وعلى الوطن، فتضحياتها من أجل فلسطين وعلى ترابها معروفة للجميع؛ وهم من سطّر البطولات وضرب الأمثلة في التعامل الإنساني الراقي. هم أبناؤنا وبناتنا، منّا وفينا، يُؤلمهم ما يؤلمنا ويهمّهم ما يهمّنا. إننا وإياهم على قلب واحد؛ ونحن نقف في ذات الخندق.
ثالثاً، تقديم كل ما نستطيع من دعم، نفسي ومادي ومعنوي، للأشقاء في فلسطين: نكتب ونتحدث ونعبّر عن رأينا ونتظاهر تأييداً لأشقائنا، لكن بالأساليب الحضارية الراقية المنضبطة التي لا تخرج عن القواعد والأصول، لأن خرق القواعد والأصول خطأ ودمار، يضرنا ولا ينفعنا. أسوأ ما يمكن أن يحدث أن يُحرّكنا الغضب ويتحكّم فينا الانفعال وأن نقع فريسة للفوضى وأن نبدأ بكيل التهم لأنفسنا خدمة لعدوّنا.
رابعاً، وحتى لا ننسى، بذل قصارى جهودنا في وظائفنا وأعمالنا الموكلة إلينا، سواء كنّا في القطاع العام أو الخاص، داخل الوطن أو خارجه، حتى نكمل بناء دولتنا ونُسهم في تطورها ونهضتها حتى تكون دوماً دولة قوية منيعة، لأن قوة دولتنا ومنعتها هي أكبر ضامن لأمننا واستقرارنا ونَصْرِنا وأكبر ضامن لنصرة قضايانا، وعلى رأسها القضية الفلسطينية، فالدولة الأردنية القوية، كانت وما زالت وستبقى دوماً، الرئة التي نتنفس منها وتتنفس منها فلسطين.
وبعد، فنحن والحمد لله في بلدٍ ناضجٍ ناجزٍ واثق، بنى نهجه منذ البداية على أربعة مبادئ في التعامل مع القضايا، وهي مبادئ لا تكون نتيجتها إلا النجاح دوماً: الوعي والعقلانية والحكمة والواقعية.
فلا يحيدنّ أحدٌ عن أيّ من هذه المبادئ.
ونقول أخيراً: حذارِ حذارِ من أن يُختَطَفَ المشهد من قبل أحمقٍ أو مُغرِض! انتبهوا!
الرأي