لم أزر الهند منذ فترة تتعدى عقداً ونصف عقد من الزمان، ولذلك لما تلقيت الدعوة من مركز USANAS المعروف بأبحاثه السياسية والجيو- سياسية والاقتصادية، والداعم لأفكار الحزب الحاكم برئاسة " ناريندرا مودي" رئيس الوزراء، لم أتردد في قبول الدعوة لأنني قد كتبت عن التغيرات في الهند، وانتقدتُ سياستها الداخلية والخارجية تجاه المسلمين، وتحول سياستها من دولة ناقدة لإسرائيل إلى دولة مؤيدة لها، حتى ولو كانت الحكومة فيها برئاسة بنيامين نتنياهو وما يفعله في قتل فرص السلام، والميل نحو التطرف المتشدد والاستهانة بالشعب العربي عموماً والفلسطيني خصوصاً.
وقد وصلت إلى المؤتمر في نهاية يومه الثاني، ولكن بقي أمامي أن أقدم خطابي الأساسي Keynote Speech عن العلاقات العربية الهندية ومستقبلها، خصوصاً في ضوء أحداث غزة. وقد كنت صريحاً في خطابي، وبخاصة عند الحديث عن تحول السياسة الخارجية الهندية نحو اسرائيل.
ومن المدهش أن هذا التحول قد أتى في زمان ارتفعت فيه العلاقات الاقتصادية بين الهند والعالم العربي إلى مستويات عالية. وقفز حجم التبادل التجاري بين الدول العربية (وبخاصة منطقة الخليج وبشكل أخص مع المملكة العربية السعودية). وفي عام 2013 بلغ التبادل 120 مليار دولار، ليقفز في عام 2023 إلى 240 مليار دولار. ولكي تزداد العمالة الهندية في دول الخليج من حوالى 6.5 ملايين عام 2013 لتبلغ أكثر من 10 ملايين عام 2023.
وقِس على ذلك الاستثمار وانتقال رؤوس الأموال وارتفاع معدلات التبادل الثقافي والفني والتكنولوجي أضعاف ما كانت عليه قبل عقد من الزمان. من المفروض في الظروف الطبيعية أن يؤدي الارتفاع في معدلات التبادل الاقتصادي بكل أبعاده إلى زيادة التعاون والتقارب السياسي؛ ولكن هذا لم يحدث في العقد الأخير حين غيرت الهند من نموذجها المتبع في السياسة الخارجية من السعي لترسيخ مبادئ العدالة وحقوق الإنسان والدفاع عن مصالح الدول النامية إلى نموذج لا يبحث عن التعامل مع العالم كمجموع، وبخاصة دول العالم الثالث، بل إلى دولة تبحث عن ترسيخ علاقاتها الثنائية.
وقد أثرت النقطة بأن العلاقات الثنائية والتركيز عليها سيحول كثيراً من هذه العلاقات مع الدول إلى معادلة الصفر، أو أن مصلحة الهند عند تحققها مع دولة ما قد تؤدي إلى خسارة هذه المصالح مع دول أخرى.
أما الأمر الثاني الذي أكده الباحثون الهنود، وكثير منهم يستحق الاحترام والتقدير بسبب عمق تفكيرهم وحكمتهم في الحوار، فهو أن لنا مصالح أساسية مع إسرائيل كنا نفتقدها بسبب تمسكنا بموقف الدفاع عن الحق الفلسطيني. وحصل هذا التحول عام 1990، أي بعد 13 عاماً من توقيع مصر معاهدة كامب ديفيد مع إسرائيل، ولذلك فإن الموقف الهندي الذي ارتكز على قيادة حزب الكونغرس الهندي برئاسة جواهر لآل نهرو والذي كان حليفاً وشريكاً للرئيس جمال عبد الناصر بعد مؤتمر باندونغ في إندونيسيا الذي عُقد في شهر إبريل/ نيسان عام 1955، ومضى عليه قرابة سبعين عاماً، وهو وقت طويل تغيرت فيه الهند وظروفها. وفي عام 1992 كانت الولايات المتحدة القطب الدولي الأعظم والأوحد، خصوصاً أنها تمكنت عام 1990/1991 من إقناع مجلس الأمن بإصدار نحو 40 قراراً خلال أشهر ضد العراق دون أن يصدر عن الدول دائمة العضوية أي فيتو، وكلها بموجب الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة.
والهند التي كانت قد بدأت مرحلة التصنيع والانتقال تدريجياً إلى التركيز على تكنولوجيا المعلومات والفضاء، حققت نجاحات باهرة في هذه المحاولات، ورأت أن من المفضل التعاون مع الغرب وإسرائيل لأنها خرجت من قمقم الفقر وصارت دولة يُعتدّ بها. لكن الهند الأقرب إلى البراغماتيكية اليوم، تبحث أثر تحول العالم من أحادية القطبية إلى مرحلة جديدة جاهزة لإعادة التفكير في مصالحها حيال تحولها الواضح باتجاه إسرائيل.
وفق الخبراء والهنود الدبلوماسيين الحاضرين، فإن هذا الأمر قد لا يخدم مصالحهم. وهذا التحول أمر فعلته أحداث غزة منذ السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023. لقد كانت ردة الفعل الرسمية في الهند في بادئ الأمر هو إدانة هجوم حماس، ولكنهم الآن يتحدثون -ولو خلسةً- عن أن التكنولوجيا المتقدمة يمكن أن تهزم من قبل تكنولوجيا يدوية قليلة الكلفة. والأمر الثاني الذي دفعهم إلى البدء في المراجعة، أن إسرائيل قد أسرفت إلى مستويات دنيئة من الجريمة، وأنها عرضت وجودها كله لمزيد من التحديات والمخاطر بدلاً من تعزيز أمنها.
ومن ناحيته، أكد الجانب الهندي أن العرب يجب ألّا يتوقعوا من الهند أكثر مما يفعله العرب أنفسهم، فهم يقولون إن بعض الدول العربية طبّعت مع إسرائيل بموجب اتفاقات أبراهام، فلماذا ينكر ذلك على الهند طالما أنه يخدم مصالح الهند؟ وأكدوا في هذا السياق أن الهند تأخذ قراراتها وفقاً لما تراه يخدم مصالحها، فهي دولة عظمى وتسير نحو تبوّؤ المركز الثالث اقتصادياً عام 2030، وأنها أكثر دولة سكاناً، وأن مكانتها الدولية قد ترسخت ولا يمكن لأحد أن يعكس ذلك.
ولكن نحن نريد أن نبقى دولة محترمة لها مبادئها. ونحن ضد الجرائم بحق المدنيين، ونحن لم نصوت ضد أي قرار يخدم مصلحة الفلسطينيين، وأن الهند تعاني من الإرهاب المرتبط بالحركات الإسلامية التي عانت منها كثير من الدول العربية مثل الأردن وسورية والعراق ودول عربية في شرق أفريقيا ودول إسلامية في غرب القارة.
وقال لي بعضهم موضحاً: "نحن عانينا من الإرهاب المتوشح بلباس الدين، ولكننا قطعاً لسنا ضد المسلمين. هناك هنود لهم آراء متطرفة حيال الإسلام. ومعظم الخلافات مع المسلمين الهنود نبعت من التعارض بين القوانين المدنية التي تسعى الهند لتطبيقها على جميع سكانها بغضّ النظر عن دياناتهم. ولكن تعدد الزوجات مثلاً نحن لا نقره ضماناً لحق النساء، ولكننا لا نمنع بناء المساجد، ولا نضايق بقوانينا لبس الحجاب أو الملابس الشرعية.
والهند أكثر دول العالم تنوعاً في أقلياتها، ولغاتها، ولهجاتها، وعاداتها، وهناك ولايات لا تأبه إلا بسياسة الولاية نفسها، خصوصاً في الخمس ولايات الواقعة في أقصى جنوب الهند، مثل كيرالا، وتاميل نادو وغيرها. لكن الحكومة المركزية تريد بناء الهوية الهندوسية الجامعة دون الانتقاص من حقوق الحكومات المحلية وسكان الولايات المختلفة. وهذه معادلة صعبة". بالطبع، كانت لي تساؤلات عن هذه التفسيرات في موقف الحكومة الهندية، وهي أنهم لا يحاربون ثقافة السيخ في البنجاب، وقد قتلوا رئيسة الوزراء أنديرا غاندي، ولم يسموه عملاً إرهابياً.
ولم يتهموا التاميل في ولاية " تاميل نادو" بالإرهاب عندما قتلوا راجيف غاندي رئيس الوزراء. ولم يراجعوا أنفسهم عندما هدموا مسجداً وأقاموا مكانه معبداً هندوسياً، ولكن هل نحن العرب راغبون في خسارة دولة مهمة وعظمى في عالم قد يؤدي إلى جعل الهند والصين الدولتين الأعظم بعد عقدين من الزمان أو قبل عام 2050؟ علاقاتنا بالهند تاريخية وقديمة، والهنود أذكياء ويعرفون مصلحتهم تماماً. وهم أكثر دولة بنت نفسها بنفسها، بدءاً من إنتاج الحليب، وانتهاءً ببناء القنبلة النووية والصواريخ العابرة للقارات. والهنود يفكرون تفكيراً استراتيجياً، وعلينا نحن في الدول العربية أن نفهم أن الكل يريد أن يلحس العسل المعقود على إمكاناتنا الطبيعية من نفط وغاز وغيره.
ولكن العالم لم يعد يخشى من نفطنا، فنحن الأحوج لبيعه، ولم يعد يخشى صولتنا، لأننا متفرقون، ولم يعد يأبه برضانا أو بغضبنا. وزيارتي للهند أكدت هذه المعاني. ورغم الألم الذي اعتصرني، إلا أنني وجدت أن الهند سبقتنا بمراحل ولم يعد أحد قادراً على إكراهها على شيء لا تريده.
العربي الجديد