رحمه الله ولد بهدوء وارتقى بسكينة ومات وادعا…
كيف ينعى الانسان رجلا لم يعرفه!؟
اتوهم، ان مناقب البشر اهم من ذواتهم ولقد عرف كل جيلي، كل مناقب طارق علاء الدين يرحمه الله… التقيته في حياتي مرات ثلاث
الاولى كان مديرا للمخابرات العامة، والثانية حين جاء للمقر السامي مستشارا عام ١٩٩٦م مدة لم تطل لأن الدنيا تغيرت فجأة وكنت هناك اعمل في الاعلام، وثالثة في مزرعة الباشا نذير رشيد امد الله في عمره بالاغوار!!
طارق علاء الدين.. كله عروبة وتفاني بتفنن في خدمة العرش والوطن من ١٩٨٢ - ١٩٨٩م كان هو كاتم اسرارنا، والحافظ لامننا، والوفي للحسين والعرش… من سجاياه وخصاله اكتب عن الذي عرفناه عنه من بعيد ونذكر بعض نتائج فعاله…
ابدأ بقصة معبرة عنه وعميقة في دلالاتها.. في عصر الثمانينات، عصر البناء والعراق ومجلس التعاون، عهد الانصاف العربي لملك الوفاق والاتفاق… صدرت الإرادة الملكية السامية بترفيع اللواء او الفريق طارق علاء الدين الى الرتبة التي تليها… وبثت وكالة الانباء الرسمية الخبر!
لم يكن في ارشيف صحيفة (الرأي) في ذلك الحين أي صورة لـ طارق باشا علاء الدين وهذا وضع عادي كان قبل ان تصبح الكتابة والنشر عن المدراء (مهمة وطنية) يكافأ فاعلها، ويعاقب المحجم عنها!!
ناداني عمود الدار المرحوم محمود الكايد (ابو العزم) طيب الله ثراه وقرأ على مسمعي خبر ترقية طارق باشا وقال "احمد يرضى عليك اجري اتصالاتك مع (صحابك) في الدائرة وجيبلي صورة منهم للمدير لأنه من الخطأ نشر الخبر بدون صورة.. يا اخي من حق الاردنيين ان يعرفوا مين مدير مخابراتهم"
ولازالة التأويل كنا في الرأي كمدرسة تجهيز موزعين على الاتجاهات السائدة شيوعيين ليبراليين، قوميين، ويساريين، ووطنيين اردنيين
وكله يحترم الاخر وهالميسترو الذي لا يتكرر (ابو العزم) يقود المركب بسلاسة ويسر ونجاح طاغ..
وكان مجيد عصفور، وسمير الحياري وانا من ضمن زمرة المؤمنين في الدولة والمجاهرين عقائديا الترويج لها…
كان ذلك الحوار في مكتب رئيس التحرير عند المساء وقبل نشرة اخبار الثامنة. طلبت من مكتب ابو العزم عالمباشر (سميح بيك بينو) فيما بعد اضحى باشا ومعالي اطال الله في عمره واخبرته بعد ان نقلت له تحيات ابو العزم بالمطلوب صورة للباشا … !!!!!
ولن تفارقني ردة فعل (العزيز ابو ماهر حتى الممات) كانني طلبت منه شيئا محرما او عيبا او محذور التناول. قال: شو بدكم !! صورة للمدير، والله لو اصير طالب هالطلب مو اترمج بس غير بجوز ينحبس من يطلبه!؟
لكنني تشبثت والححت عليه بكل رصيد اخوتنا الممتدة.. قال لي سميح بينو الله يسعد طلته "شوف.. اطلب منه هيك طلب مستحيل لكن انا بدي اساعدكم لأنكم حبايبي وطلبكم والله مقنع… ارسلوا مصوركم للمدينة الرياضية الان في عشاء لضيف عند سيدنا (احب ان اتخيل انه كان الرئيس الفرنسي)، وطارق باشا قاعد عالطاولة الرئيسية وسأسهل للمصور الدخول"!
كان عرضا وعونا غير مسبوق واخبرت (المعلم) واستدعى الزميل يوسف العلان، وكلف بتنفيذ المهمة، وكان سؤال يوسف: طيب انا ما بعرفه!!.. قلت له: انت صور الحضور عالطاولة وانا بعرفه ما عليك…
بعد أقل من ربع ساعة عاد يوسف العلان حزينا مكسور الخاطر !!!
سهلت مهمته الدخول للموقع والتقط الصورة ولما شاهد (الفلاش) ناداه طارق باشا علاء الدين، وسأله انت وين تشتغل واجاب في الرأي، فقال له اذا بشوف الصورة بكرا في الرأي برجع معلمك وانت معاه عالجفر (السجن)
لما روى القصة يوسف لكلينا كانت ردة فعل ابو عزمي غريبة، لم يغضب بل قال رحمه الله (والله هذا الرجل يحترم).
طارق علاء الدين صنع مدرسة أمنية استخباراتية بمهنية رفيعة جدا واختفى خلف انجازاته… كان هو الظل والفعل كان فعله…
في عهده كانت المخابرات العامة تؤدي دورها بصمت بعيدا عن الضوء الاعلامي.. في عهده تم اخماد الكثير من الحرائق بروية وصبر… وطارق علاء الدين رحمه الله كان لا يولي أي إعتبار في النظر لرجالات الوطن في دائرته سوى اعتبار الشرف والوطنية والمهنية ولم تشهد الدائرة في تاريخها مثل ذلك التنوع
كان المرحوم سعدي الزعتري (حامل اصعب الملفات) وكان سميح بينو القابض على زند قاتل فهد القواسمي من راس العين حتى الدائرة ليبشر الحسين ان القاتل في يد العدالة!!
والمرحوم عمران خير كان رئيس شعبة والمرحوم محمد سعيد دويكات (ابن مخيم بلاطة) رئيس شعبة وسليم خليلية (مسيحي تلحمي) رئيس شعبة، وحسني ابو شقرا جمع الخليل الى الكرك (رئيس شعبة) ورضوان عبيدات، ومحمد خير العضايلة، وعبد الستار الخرابشة
كان التنوع في الدائرة من صنع مصدر الهامه هو طارق علاء الدين.. وكان زهدي الحسن (اللعيب في مهارة الاقتناص لرجالات القدس والضفة بوعيه وطيب محياه وكأنه سفير في الخارجية وليس ضابطا للمخابرات.. كان محمد زاهد الحناوي حارس بوابة الاعلام يبدأ يومه في قراءة الواشنطن بوست والنيو يورك تايمز ثم يباشر الدخول للصحافة المحلية
طارق علاء الدين اضفى من روحه على المخابرات ما جعل منها واحة حب وطنية ولأن كان احمد عبيدات ادام الله عليه الصحة والهناء قد غرز البعد الاخلاقي في الاداء وابعد عن الدائرة اوهام القسوة وجعل من الخضرة بابا لها فإن المرحوم (ابو حسن) قد خلد المهنية المحترفة وجعل من اختراق الخصم وسيلة استتباب امن وطن وليس بغاية التركيع له…
طارق علاء الدين الرجل الذي صنع من الصمت نبلا والبس السرية معنى التخفي المطلق ما دفع بعض الوزراء ذات عشاء في منزل دولة السيد زيد الرفاعي ( لابو عمار وصحبه ) الى الوقوع في المحذور
كان وزير داخليتنا (تخيل) يجلس بجوار الباشا طارق علاء الدين في مأدبة العشاء تلك… والوفدان (الاردني والفلسطيني تداخلا في الجلسة)، وشرع وزير الداخلية يستفسر عن بعض الامور الفلسطينية الحساسة والباشا يجيب.. وبعد فترة والوزير يظن ان زميله من الوفد الفلسطيني خطر على بال الوزير ان يقدم نفسه لمحدثه ليتعرف بالتالي عليه فقال انا فلان الفلاني (وزير الداخلية مثلا) فاجابه الباشا وانا اسمي طارق علاء الدين مدير المخابرات العامة الاردنية !!!!
لم يكن الامر زهدا فيه بان يسعى الى الضوء الاعلامي لانه كان وصحبه هم الضوء.. الضوء الاول الذي انار الدرب للاردنيين في اصعب واهم واخطر معترك، ولقد عاشر طارق علاء الدين وزارات ثلاثة واحدة لمضر بدران وكان له مساعدا وثانية لـ احمد عبيدات وكان له نائبا
وثالثة لـ زيد الرفاعي بامزجة ثلاثة وتصورات متباعدة ثلاثة ونتائج لا تمت بصلة في اولوياتها.. فدولة ابو سمير كان مشغولا حد الانهماك
في تلبية امنية الحسين رحمه الله في صيغة مجلس التعاون العربي وقد تحقق.
واحمد عبيدات جاء يحمل في قلبه قبل ملفاته مشروعا اصلاحيا للادارة ( ملاحقة بؤر التطاول على المال العام، وضخ دماء جديدة في إدارة الدولة، والتأقلم مع وضع جديد اتاه الحسين ليكون احمد عبيدات هو المستقبل والحامي لعقد المجلس الوطني الفلسطيني في عمان وكان ذلك كله جديد!!!
اما مضر فهو بعين تحدق في شرعية الانجاز يسابق الزمن لبناء المطار والصوامع والجامعات والطرق… وكان كل ذلك في مرحلة طارق علاء الدين، والاشتباك مع عصابة ابو نضال القاتلة المتعجرفة باغتيال سفرائنا وديبلوماسيينا ولوى طارق عنقهم
كان طارق بطلا في هيئة ضابط وكان شركسيا في صورة عربي وظل اردنيا حتى القاع حتى النخاع
اليوم، بانتقال طارق باشا علاء الدين يرحمه الله الى جوار ربه فإن مفتاحا من مفاتيح السر والسحر سيختفي بجيبه وسيغلق بالتأكيد للأبد محاولة الكشف عن حيثياته
لقد مات طارق يرحمه الله ومات معه سر (هبة نيسان) فهو الوحيد الذي كان من الممكن ان يبوح بسرها لكنه كنبله الدائم مات وذهبت معه قصة اسرار نيسان الى الابد
يرحمك الله.. عشت عزيزا كبيرا ومت في وطن يهب العزة لكل منتسب اليه ويحمي كل عربي يلوذ به وحتى اخر لحظة كنت تسجل اعمق المعاني للوفاء حين طلبت من زهدي الحسن ان يبحث عن متسع بجوار والدتك بمقبرة وادي السير يرحمها الله وحين تعذر ذلك اوجد لك الاحبة اقرب مكان لمجاورتها.
نم قرير العين ايها البطل.. فالاردن بخير ان شاء الله