مقطع من الذكريات الحميمة (4)
محمد الداودية
27-03-2024 01:47 AM
معلمو «أيام زمان».. مسؤوليات تتجاوز سور المدرسة
كان عليّ أن أواصل تطوير طاقتي وأن أشحنها بلا توقف. كنت أقول لي، إن بوسعي أن اقوم بجهد أكبر. أن أعمل أكثر؛ أن أنجز أكثر؛ أن أحمل أكثر ؛ أن أصعد أكثر؛ أن أبذل أكثر؛ أن أعرق أكثر، ان أتعلم أكثر؛ أن أتواضع أكثر؛ أن أترفق أكثر؛ أن أبتسم أكثر وأن أحب أكثر،
وأن أتعثر أكثر لأنهض أكثر !!.
كنت من المتطلعين إلى المساهمة في تغيير العالم. وجعله أكثر عدلاً وأمناً وكرامة وحرية وجمالاً.
كبرت قليلاً، فرأيت أن أبدأ بتغيير وطني الصغير. ليصبح جديراً بابنائه وجديراً بحمل اسم الأردن العظيم، محور بلاد الشام وقلب الأمة.
ولما كبرت اكثر، قررت أن أغير عالمي الصغير !!
ان اتعب وأجهد وأبذل وأعطي اكثر فأكثر واكثر لمزيد من الإستقامة والعطاء.
ودائما كنت اسأل نفسي: ما هو واجبي تجاه هذا الأمر وذلك التحدي، وما هو دوري الوطني في المعالجة.
ودائما كنت أرى ان عليّ وعلى كل انسان واجباً ودوراً، كما ان له حقاً وكرامة.
فالطليعي الذي يستنهض المجتمع يجب اولا ان يستنهض نفسه.
كنت أعامل نفسي كابنٍ نهم يحتاج إلى التقويم والإرشاد والنصح. وان يكون مستقلاً، والد نفسه وصديقها والرقيب عليها.
ما أطول الطريق الذي مشيته !
لقد ارتكبت كثيراً من الأخطاء، حاولت ان أصلحها وان لا ارتكب مثلها. ولقد أثرتُ كثيراُ من الغبار خلفي وكنت سعيداً بذلك كثيراً. وكنت شرساً لا أدانى كما كنت سلِساً سهلاً يَسِرا.
ورغم انني من جماعة «ظنّ بأخيك خيرا»، إلا انني اعتمدت كثيراً على الحدس والحذر، وعلى إعمال آليات التقدير والتوقع، التي كثيرا ما أصابت وأفرحتني.
ولم أجزع ولم أقنط.
فكلما واجهت مصيبة او حاجزاً او تحدياً او أهوالاً، اعتبرتها طبيعية جدا واعتبرتها موجودة لأتجاوزها وأتخطاها.
«لفّيت» الأردن
عملتُ في عدة قرى في وسط الأردن وفي جنوبه وفي شماله، في ظروف غاية في القسوة، عانى منها معلمو ومعلمات الستينيات والسبعينيات.
قرى كان فيها مدارس ومعلمون ومعلمات فقط، لم تكن فيها كهرباء ولا طرق ولا سيارات ولا بنوك ولا أي.تي.ام. ولا مخابز ولا ملاحم ولا مطاعم ولا عيادات صحية ولا مراكز طبية ولا صيدليات ولا كازيات ولا مساجد ولا مقاه ولا كوفي شوب ولا بيرغر كنج ولا بيتزا هت ولا مكدونالد ولا دور سينما ولا مسارح ولا مكتبات ولا هواتف ولا تلفزيونات ولا لاب توب ولا فيسبوك ولا واتساب.
تغلغلت عميقاً في تضاريس وطني، بمتعة وفرح، عرفت كيف يعيش أهلي، الذين عملت بعيداً عنهم، حتى ان عطلتنا الأسبوعية كانت يوماً واحداً فقط.
كنا نتحمم في السطل واللقن، ونغسل ملابسنا الداخلية والخارجية «على اليد» ونخيط فتق الملابس والأزرار المقطوعة ونكوي ونعجن ونخبز ونطبخ منسفاً او مكمورة او مقلوبة، ونجلي ونحطّب ونصيد ونذبح ونسلخ ونقطع الخروف وننتف ريش الطيور والدجاج ونطبخها.
كنا نعيش في القرى التي نعلّم فيها، لم نكن زواراً عابرين. كنت أدخل في شراكة مع والد مدير المدرسة الأستاذ عواد الفنخور فنزرع ارضه قمحاً وحمصاُ ليس بقصد الربح بل بقصد المتعة التي يحصل عليها الفلاحون وهم يراقبون السماء ينتظرون مطرها وغيثها ويراقبون الزرع ينمو إلى ان يصبح قمحاً نفرّكه او حمصاً نشويه.
وبعد تناول وجبة الغداء وإبريق الشاي واستراحة قصيرة، كنا نذهب إلى الملعب الترابي، المعلمون والطلاب، نلعب كرة القدم إلى ان تغيب الشمس وتصبح الرؤية متعذرة.
وفي بلدة الدجنية توليت تحطيم الصخور بـ»المهدّة» كي نمهد الملعب ما أمكن. كنا نرتب مباريات كرة قدم مع مدارس القرى المجاورة التي نذهب اليها ونعود منها سيراً على الأقدام.
كنت معلم كشافة، أتحرك مساء مع طلاب مدرستي الدجنية وحمامة العموش على الطريق المتجه إلى جرش نمشي على علامات الكشافة نطبقها ونهتدي بها إلى نقاط التجمع في أجواء أسرية حميمة لا مثيل لنقائها وصفائها.
كنا في الطابور المدرسي الصباحي عندما لفت المدير عواد فنخور انتباهي إلى امرأة تنطلق بسرعة من بعيد تتوجه إلى المدرسة،
كانت تثير خلفها سحابة غباراً غاضبة !!
قال لي عواد: أتعرف من هي تلك المرأة ؟
قلت: لا.
قال: هذه هي أم الطالب الذي عاقبته يوم أمس، وهي امرأة قوية لن تتورع عن بهدلتنا ومسح الأرض بنا كلنا أمام الطلاب.
قلت وانا ابلع ريقي: خليني اتصرف.
وأضفت: لا يوجد مفر من المواجهة.
قال ممتقعا: لا.
وصلت المرأة التي تقدح عيناها شرراً وتقدح قدماها حجارة صوّان، وأعين الطلاب العارفين، تتحرك نحوها ونحونا تشفق علينا او تتشفى بنا.
قالت بلهجة من قرر الحكم: وين المعلم الطفيلي؟
توجهت نحوي قائلة: لماذا تكسر خاطر ولدي وتضربه لماذا؟
قلت لها: حقك عليّ، هذه آخر مرة أعاقبه فيها.
وأضفت: لن اسأل ابنك بعد اليوم إن جاء إلى المدرسة او ان غاب، إن انجز فروضه المدرسية او لا.
وأضفت: ليس لي ولا للمعلمين الذين يسمعون صوتي اي علاقة بابنك.
أوشكت المرأة على الانهيار، امتقع لونها وقالت بلهجة منكسرة: لا يا ولدي يا الطفيلي، لا، مو (هيch). ابني ابنك ودي يتعلم.
قلت لها بحزم وبصوت فاصل: لا ترجعي إلى المدرسة مرة ثانية، نحن أحنّ على ابنك منك والشغل شغلنا. ردت باستسلام: الولد ولدكم وانا ما لَي شغل.
عادت أدراجها تتلفت خلفها بين الفينة والأخرى وكأنها تظن أنني ساضع عقلي بعقل ابنها وانني سأرسله خلفها او أنني سأوسعه ضربا.
كيف يصبحون مسؤولين، أولئك الذين لا يعرفون قرى الأردن وباديتها ومخيماتها ؟
اية قرارات ذات بعد شعبي انساني سيتخذون؟
في أحد مجالس الوزارات قبل سنوات طويلة، قال وزير المالية ان أسعار الأعلاف ارتفعت من مصدرها، ولذلك أنسب لمجلس الوزراء برفع أسعار الأعلاف المدعومة على مربي المواشي والدواجن.
أيد رأيه عدد من الوزراء وعارض بعضهم.
كان عام انحباس الأمطار وعام محل، انتكب فيه المزارعون ومربو المواشي فاصبحوا غير قادرين على إطعام مواشيهم فعمدوا إلى بيع نصف القطيع لينفقوا على النصف الآخر، وبدل ان يتم تخفيض أسعار بيع الأعلاف المدعومة لهم، يريد بعضهم ان يرفع عليهم الأسعار !!
كانت المخافر والثكنات العسكرية هي أول التعليم في الأردن، فقد تم اعتمادها واعتماد نمط جديد من المعلمين، هم المعلمون المتنقلون في بداية الثلاثينيات، لتعليم الجنود وتدريسهم وازالة أميتهم، وسط إقبال كثيف على «فك الحرف» الذي كان لغزاً. ثم تولى الجيش عبر مدارس الثقافة العسكرية تبِعات التعليم واعباءه في المناطق التي لا تتمكن وزارة التربية والتعليم» وزارة المعارف آنذاك» من الوصول إليها او بهدف تعليم أبناء العسكر الذين سيصبحون عسكراً يرثون الشعار والبوريه من آبائهم.
فتم انشاء مدرسة القويرة وكلية الشهيد فيصل عام 1946. ومدرسة النصر- مدرسة الثورة العربية الكبرى عام 1949.
درّسَنا في المدرسة العسكرية الهاشمية في المفرق، معلمون عسكريون من مختلف الرتب، برئاسة ضابط دمث طيب هو الملازم عادل محمد حسن. ولن أنسى عندما زار مدرستنا عام 1962 عثمان بدران مدير الثقافة العسكرية، المجاهد الكبير في فلسطين، الذي حمل لنا حلوى «الككس» التي رأيتها للمرة الأولى والتهمت حبة منها بعد ان تأمّلتها طويلا.
كانت المدارس العسكرية تتميز بالجدية والصرامة والضبط والربط، وكان الطلاب كأنهم جنود في ثكنة عسكرية. وقد صقلت شخصيتي كثيراً السنوات الأربع التي درستها في تلك المدرسة، السادس والسابع والثامن والتاسع ( 1959-1963).
عام 1963 قدمت امتحان الثالث الاعدادي العام على مستوى المملكة، واظن انني أحرزت علامات عالية جداً فيه.
كان المعلمون أوّل الطلائع الأردنية المباركة التي رادت القرى، قبل الصحة والطرق والهاتف بسنوات، وقد اسلفت بذكر المشاق والقسوة والصعوبات التي عمل فيها المعلمون دون تبرم او تذمر، ولما سردت لجدي ما الذي كنا نعمله من غسل وبح وكوي وكنس وطبخ وجلي وعجن وخبز وتحطيب ونتف ريش الشنانير التي نصطادها وذبح الخراف التي نشتريها وسلخها وتقطيعها قال مستغربا: كل شي عملتوه وما ظل غير ترضّعوا !!
كانت على المعلم مسؤوليات تتعدى غرفة الصف وتتجاوز سور المدرسة، مسؤوليات تتنوع وتتوزع على مختلف شؤون الحياة الخاصة بطلابهم.
لعب المعلمون أدواراً كبيرة في حياتي، وجمعتني بهم صلات طيبة، وسأظل اذكر العصامي الجاد معلم اللغة الإنجليزية خلف الناطور المخزومي، وعبد الله تليلان معلم الرياضة المحترف المخلص، وعادل الشريقي، ومحمد الداغستاني أبو علاء، وذوقان عبيدات الذي تبادلت معه الكتب في حينه، وعشرات المعلمين الذين ستستردهم الذاكرة ولو بعد نصف قرن.
عندما أصبحت صحافياً بحثت عن عثمان بدران وأجريت معه لقاء صحافياً حدثني فيه عن ذكرياته وتاريخه الجميل النبيل.
نشرت ذلك اللقاء في صحيفة «صوت الشعب» تحت عنوان وجهاً لوجه. وعندما أصبحت وزيراُ للشباب بحثت عن عبد الله تليلان وتمنيت عليه أن يقبل عضوية اللجنة الأولمبية الأردنية.
وبحثت أيضا عن المبدع المتميز ذوقان عبيدات وتمنيت عليه ان يقبل اميناً عاماً للجنة الأولمبية الأردنية.
أرجو ان تكون هذه الذكريات مفيدة للآباء والمعلمين والباحثين. لقد ظل الأصدقاء الذين تابعوا هذه الكتابة في الدستور يلحون عليّ بان أواصل.
ويجدر ان اذكر انني اكتبها بمنتهى الاعتناء والتدقيق، وقد تحمّل الكثير من الايميلات من اجل المزيد من الدقة الأستاذ مصطفى الريالات رئيس التحرير المسؤول ومدير مكتبه البلدوزر لؤي الوحيدي بالإضافة الى طاقم التنفيذ المبدع.
لقد حثّني ابني عمر طويلا على كتابة هذا اللون فقد كنت أقص عليه وعلى أسرتي أحيانا بعض ما جرى معي.
وقد تلقيت ردود فعل مشجّعة منه اعتمدتها، لأنني اعتبره ضميري وناقدي الذي أثق بسلامة ذائقته.
وكان للتعليقات الكثيرة التي تلقيتها دور حاسم في الاستمرار ومواصلة الكتابة في هذا اللون، وقد استغربت كيف يهتم أبناء هذا الجيل بتلك المعاناة التي مر عليها أكثر من نصف قرن وأصبحت من الماضي.
الدستور