المخدرات ظاهرة يكتنفها الغموض
د. صبري ربيحات
25-03-2024 11:41 AM
لا اظن ان بمقدور احد منا (خصوصا نحن الذين نتابع الشأن العام ) ان يتحدث عن المخدرات في الاردن بثقة وموضوعية يمكن الاعتماد عليها.. وايا كانت محاور حديثنا او اتجاهاته فقد لا يفلح في استخلاص مؤشرات ترشدنا الى الاتجاهات التي يسير فيها المجتمع والتحولات التي تطرأ على علاقة المجتمع بالمخدرات..
في الاردن لا تزال البيانات حول معظم القضايا والظواهر محدودة .والكثير من المؤسسات لا توفر ما يكفي من البيانات للتحليل والمقارنة.. ونحن نعرف ان الاحصاءات الرسمية لا تعكس بالضرورة الحجم الفعلي للظاهرة
في الاردن الذي شكلت معاهده الشرطية ومؤسساته الامنية قبلة للاخوة العرب في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي كان رجالات اجهزته الامنية اعلاما في الفكر والادارة والمهارات الشرطية التي اكسبت بلادنا السمعة الحسنة وجعلت منها خيارا مفضلا للتدريب.
لعقدين من الزمان وربما اكثر استقبلت المعاهد الشرطية الاردنية المئات من المتدربين جلهم من الدول الخليجية المستقلة حديثا حيث توافد المرشحون والضباط والافراد للالتحاق بدورات للاعداد والتأهيل والتنمية والانعاش والقيادة والادارة الشرطية وشجع جهاز الامن العام ضباطه ومدربيه على تطوير كفاءتهم ومهاراتهم فأرسل العشرات منهم في دورات للولايات المتحدة واوروبا ومصر والتحق عدد كبير من الضباط في برامج للدراسات العليا لنيل درجات الماجستير والدكتوراة ليكونوا مدربين في حقول العمل الشرطي والإداري والقضائي المتنوعة..
كانت ميادين المعاهد الشرطية تكتظ بالدورات التي خصص الكثير منها لابناء دولة الإمارات وقطر وعمان والبحرين والكويت .فإلى جانب دورات كلية الشرطة ومعهد التدريب الشرطي ومدرسة تدريب الشرطة عملت مدرسة الشرطة النسائية على عقد دورات للنساء اللواتي انخرطن في السلك الشرطي وبمشاركة فتيات من سورية والبحرين و بعض الاقطار العربية الأخرى.
من معاهد الامن العام الاردني تخرج العديد من قادة الاجهزة الامنية العربية وحملوا معهم الكثير من الخبرات والمهارات والاساليب والانطباعات التي مثلت صورة الشرطة الاردنية وعكست كفاءة ومهارة الضباط والمدربين و قدراتهم و جديتهم ومهاراتهم ونبل اخلاقهم وسلامة نهجهم..
الاثر الذي تركه الاردنيون على المتدربين من ابناء دول الخليج العربي كان العامل الاهم وراء استدعاء بعض هؤلاء الضباط والافراد الاردنيين للعمل في دول الخليج العربي كمدربين واداريين ومستشارين في حقول شتى.
في ذلك العصر الذهبي للإدارة الاردنية كان لي شرف الالتحاق بجهاز الامن العام وتلقي التدريب الأساسي في كلية الشرطة الملكية كانت قد صممت لابناء دول الخليج العربي ولاكون الاردني الوحيد بين منتسبيها الاثنان والخمسون مرشحا .
في العام التالي لتخرجنا كان العقيد انذاك يوسف الغرايبة نجما ساطعا في سماء الشرطة العربية وكان منبهرا بنظرية الدفاع الاجتماعي وتطبيقاتها ويتحدث بلغة ومفاهيم جديدة .كان تأسيسه الجامعي في الفلسفة وعلم الاجتماع واحتكاكه مع الاجهزة الشرطية العالمية وشغفه بالقراءة عوامل مهمة في بناء شخصيته الديناميكية المتحمسة وربما السبب وراء اختياره لتأسيس إدارة مكافحة المخدرات والتزييف .
بسرعة مذهلة ظهرت الادارة الى حيز الوجود واختير لها المبنى المجاور لإدارة المخابرات العامة وغير البعيد عن مباني مديرية وادارات ونادي ضباط الامن العام. كان الشارع المعروف بشارع كلية الشرطة الملكية مرصعا بالمباني والميادين التي تحتل معظم اركان ونواصي الشارع و تتقابل على امتداد طوله الواصل بين مديرية الامن العام ودائرة المخابرات العامة . هذا الشارع الذي جرت إزالة معظم المباني الواقعة على جانبيه ليحل محله بوليفارد العبدلي اليوم .
كان يوسف الغرايبة ايقونة شرطية يطمح الكثير منا ان يكبروا ليكونوا على شاكلته فقد بذل مجهودا استثنائيا للتعريف بالمخدرات وانواعها وتأثيرها وأشكالها وارتباطاتها بالجريمة المنظمة .
مع تشكيل الادارة الجديدة المتخصصة وبعد ان التحق بها فريق من الشباب الواعد من الرتب الوسطى والصغيرة دأبت العمل على تعريف نفسها ونحت المفاهيم والادبيات التي تعكس صورتها ومهامها وعملها ...في تلك الايام جرى نحت مقولة " ان الاردن ممر للمخدرات وليس مستقرا لها..."
لم يعمر الغرايبة في المخدرات طويلا فقد نقل إلى مواقع اخرى وخلفه بعض الشباب في إدارة الدائرة التي ذهب جل جهدها لملاحقة التجار والمهربين .
كان الضباط يتسابقون على نيل شرف العمل في الإدارة الجديدة فهو ميدان عمل جاذب يمنح من يلتحق به الاحساس بالاهمية ناهيك عن التمتع بامتيازات لا تتوافر في ميادين اخرى فالعمل في الإدارة الناشئة يمنح دخلا أعلى ويوفر للضابط سيارة خاصة ويمنحه فرصا للتخطيط و الإبداع في استخدام مهاراته في الرصد والتتبع والاختراق للشبكات وفي العمل مساحة للبطولة الفردية و التقدم المهني . كل ذلك كان كافيا لكي يتناسى من يعمل في ميدان المكافحة انه مجال صعب وحساس ودقيق فيه من الإغراءات والمخاطر ما قد يضع مستقبل وحياة من يدخله على كف عفريت .
نعم ، لقد تغير المجتمع الأردني عن ايام السبعينيات والثمانينيات وكثرت المشاكل الاجتماعية وتحسنت القدرات الشرائية للأفراد وزاد انتاج المخدرات الطبيعية والمصنعة وكثر التجار والمروجون وتغيرت التركيبة الديموغرافية للبلاد وتعاظمت الهجرات القسرية بعدما تزعزع الامن في بلدان الجوار ودخل الفساد الى بعض مؤسساتنا واختلط القطاع العام بالخاص وظهر على المسرح العام شخصيات لها تاريخ مشوه وارتبطت اسماء بعض هؤلاء بالتهريب و بأسماء أشخاص مؤثرين .
مع كل هذه التغيرات لا زلنا نتعامل مع الظاهرة على الطريقة التي يتعامل معها الرواد الاوائل يوم كانت بلادنا ممرا للمخدرات واعداد الذين تورطوا لا يتجاوز المئات .
المؤسف اننا لا زلنا نتعامل مع العرض ونهمل الطلب بالرغم من ان التعاطي والادمان وصل الى كل مكان وان التجار يسرحون ويمرحون وان من يسيرون الطائرات الموجهة المحملة بالسموم يعرفون من يستقبلها على الطرف الآخر ويعرفون الشبكات التي تدخل كل هذا الى بلدنا ونتحدث عنها وكأننا نطارد أشباح....
اظن ان البعض لا يكترث لما يحدث الا بمقدار ما يمكن ان يستفيد من ذلك.و بالرغم ان إخوتنا في المكافحة يتحدثون عن اكثر من ٢٣٠٠٠ قضية مسجلة وهذا الرقم لا يعني ان كل ما ارتكب من جرائم عرف من قبل الاجهزة .... مع كل ذلك لا يزال البعض يتحفنا بإعادة ما قاله المرحوم يوسف الغرايبة في خريف عام ١٩٧٨ " الاردن ممر للمخدرات...وليس مستقرا لها " رحم الله اللواء الغرايبة وحمى الله الاهل في هذا البلد الصابر.