سحم الكفارات وما حولها جنة الشمال ومضرب المثل بجودة زيتها وطيابته، ومع وعورة تضاريسها إلا أنك تسير بأمان وترحاب بصوت ينادي يتردد صداه بين الجبال والكهوف القديمة ليختال لك أن من كان هنا يوما ينادون عليك من جوف الجبال.
كفر لاهية
كانت الإنطلاقة من كفر لاهية عند مفترق الشعلة آخذين درب الفلاحين نحو عين البلدة المعروفة بإسمها عين لاهية لنتزود منها بماء رحلتنا وما من ماء يضاهي الماء الحي الخارج بلحظته من جوف الأرض متجمعا بحوضها عبر قنوات صخرية شق منها من زمن الممالك وحضارات تعاقبت على أرض عرفت بزيتونها الشاهده أشجاره بجذور تشبثت بالمكان كما هم أهلها بملتقى الحدود بين الشقيقة سوريا بمقابلة بلدتها دبوسيا وفي الأفق جبل الشيخ اللبناني والجولان وجبال الجليل الفلسطينية، فأنت هناك تتنفس هواء العروبة الممزوج برائحة عطرية لنباتات الطريق التي كانت تثيرها حركة مرورنا بين أزهارها، فهذا المكان الإستراتيجي أورث أهلها بعد البصر والبصيرة، فاسمها باللغة السريانية كفر تعني البلد او القرية ولاهية مشتقة من الآلهه ذات الاصل السامي اي قرية الالهة.
فما هي إلا أمتار حتى تبدأ تلوح لك الكهوف التاريخية من مدافن نقبت بها القبور بالصخر الجيري أو مساكن شذبت مداخلها وجاورها مخازن غلال وحضائر أغنام استخدمت من فجر التاريخ إبان العصر البرونزي للفترة الهلينستية والبيزنطية امتدادا للعصور الإسلامية الأموية والمملوكية تلاها العثمانية كما ذكر المستشرق الألماني شوماخر برحلتة للبلاد عام 1890م ، ولغاية اليوم بما نفذ من أعمال تنقيب وترميم ليكون مزارا لعشاق المعرفة والتاريخ وما يطمح به الأهالي من مشاريع لاستقطاب الزائرين.
شلال الدبة
أخدنا الطريق الضيق نزولا إلى شلال الدبة قبل ملقى الأودية لتكون استراحتنا الأولى ولقاء أصدقاء لنا اجتمعوا هناك في استراحة المسير وصوت قريب ينادي من معارفنا "ابراهيم الطوالبة" يدعونا للإفطار وتقاسم ما تيسر من طعام الرحلة على حافة مجرى السيل مع أجيج الشلال الذي يصب بنهر اليرموك بعد المرور بشلال قليط غايتنا المنشودة.
سلكنا الطريق أحادي الإتجاة بسير يستوجب الحذر وتعاون الفريق وبمد يد العون للجماعة لوعورته وخطر الإنزلاق لرطوبة الأرض ،وهذه المرحلة تتطلب استخدام عصي الاإتكاز واختيار حذاء عريض الفرزات وأفضلها من كان نعله ذي العلامة الصفراء فيبرام المعروف بثباته ومقاومة الإنزلاق مع الإلتزام التام بتعليمات قائد الفريق، متخللين منعطفات هشة جرفتها مياة الشتاء وحواف لم تتجاوز مساحة القدم تحتاج منك مهارة بالثبات، صادفنا بقمة الجبل المقابل مرور قطيع من سود الخنازير البرية برفقة صغارها "الخنانيص" المعروفة بتواجدها بكثرة بالكهوف النائية في الجبال البعيدة في حين أنها غير معتادة الإقتراب من الأماكن المئهولة وخوفا من كلاب الرعاة.
سحم الكفارات
وبعد هذا الحذر والتعاون الأخوي وصلنا الشلال العذب الهادر وقمنا بالإستراحة فوق صخوره والتأمل بجماله البكر فقلّه من يصله ،ومساحات غطتها أزهار السوسنة بشكل ملحوظ رمزنا الوطني المعروف والتي لو أضيفت لتركيبة العطور تعطيها لمسة حادة، لنعود نستذكر نشوة الطريق مرورا بشلال أم الذبان وملقى الوديان متجهين للشرق نحو سحم الكفارات عبر واديها الخصيب المعروف بما طاب من مزارع الليمون، وقد جاد علينا صاحب الكرم منها والمعروف بلذة ثماره من الجوافة والرمان والعنب واللوز.
وبعد مسير وصلنا لموقعها التاريخي الشهير حمام العرايس وهو حصن يوناني يعود بنائه الأول للقرن الثالث قبل الميلاد ومن خلفه عين البلدة جرت مياهها لتصب فيه عبر قناة ما زالت أطلالها شاهدة في المكان ، ويقال أنه يرتبط بعدد من الأنفاق إحداها يصل للدير، وفي أعلى الجبل هناك كهف يطلق عليه الأهالي بكهف عيسى نسبة إلى نبي الله علية السلام ويعتقد أنه التجأ إليه ومكث فيه أحد عشر يوما خوفا من بطش اليهود، ومن الكهوف الشهيرة أيضاً كهف العليليات والويس المعروف بعراق ليوس وهذه الكهوف مرتبطة بعلاقة النشأة المسيحية المبكرة المحتاجة للبحث المستفيض للتأكد منها والتي إن ثبت ذلك بالقاطع العلمي والبرهان أصبحت مزارا ذو أهمية دينية وتاريخية يجلب الناس ويثير شغفهم عبر الحدود، وقد يكون الأمر صحيحا كونه ورد معجزة الأرواح الشريرة بأم قيس وتتقاسم مع كفر ناحوم بحدث الموعظة المجاورتين للمكان وفي الأفق الفلسطيني دبورية حيث كان التجلي وليس بعيدا عنه شيد مسجد قديم أموي الطراز وجاري ترميمه، وحسب الرواية سكنها الغساسنة، وفي الكهوف الكثيرة المنتشرة بحكم الطبيعة وجد في بعضها آثار تعدين لخام الحديد، ولوفرة الخيرات والمياه مصدر الحياة كثرت بها معاصر الزيتون وأحواض هرس العنب لصناعة النبيذ حين كان رائجا بذلك الزمان.
وبذلك ننهي جولتنا بعد قطع مسافة 14 كم والاتجاه نحو بستان لتناول وجبة الغداء