معركة الكرامة في يوميات أكرم زعيتر
د. بسام البطوش
24-03-2024 09:52 AM
شغل أكرم زعيتر(1909-1996م) منصب وزير البلاط في الديوان الملكي الهاشمي، إبان معركة الكرامة يوم 21 آذار 1986م. مما أتاح له صلة وثيقة بالأحداث. ولعل ما أورده زعيتر في يومياته يجلّي الحقائق حول المعركة، ولطالما كنّا نحتاج هذه اليوميات التي يقدّم فيها شخصية وطنية ومؤرخ ومناضل عريق في الحركة الوطنية الفلسطينية هذه الحقائق، لحسم الجدل حينما حاولت جهات عدة اختطاف النصر من الجيش العربي الأردني، وتقديم روايات مضلّلة ومجحفة بحق الملك الحسين والجيش الأردني.
*مقدمات المعركة:
جبهة مشتعلة
تشير يوميات أكرم زعيتر إلى مقدّمات معركة الكرامة والظروف التي سبقتها على الجبهة الأردنية، إذ تحدّث زعيتر في يوميات 9/2/1968م عن هجوم إسرائيلي على الجبهة الأردنية، وتحديداً على مواقع تل السعيدية، ومخيمات اللاجئين في كريّمة ومعدّي، وجسر الملك حسين (اللنبي)، ومخيم اللاجئين في الكرامة. ويورد زعيتر الخسائر في جانب الجيش العربي والمدنيين الأردنيين في المناطق المستهدفة بالعدوان، كما أورد خسائر العدو التي اعترف بها.
عرفات يتقبل منع مصر وسورية للعمليات الفدائية عبر حدودها، أما الأردن فلا !
وقبل المعركة بشهر تقريباً يروي زعيتر في يومياته ما نقله له كامل الشريف عن مباحثاته مع ياسر عرفات حول ما يجري من عمليات فدائية مقتصرة على الحدود الأردنية دون غيرها، مما يشكّل ضغطاً على الأردن، وأن السيد عرفات يتقبل منع مصر وسورية لعبور العمليات الفدائية عبر حدودها كونها تعتذر بأنها لم تستكمل إستعداداتها للحرب بعد! ولما ناقشه الشريف بأن هذا السبب ينطبق على الأردن أيضاً، أجابه عرفات: "إننا لا نحسّ هنا بالاستعداد، ثم إن الشعب الفلسطيني متصل بالحدود الأردنية أكثر مما هو متصل بالحدود السورية والمصرية". وسأله كامل الشريف: " ألا تخشون أن يؤدي عملكم من الحدود الأردنية إلى احتلال بقية الأردن أي الضفة الشرقية كلها؟"، فأجاب (عرفات): " ليكن، وليحتلوا البلاد العربية كلها وليقذفوا بالجيوش العربية حتى حدود الهند، فإما أن تحيا هذه الأمة أو تموت لأنها غير جديرة بالحياة".
عدم جديّة الدول العربية في دعم الأردن عسكرياً إذا تعرّض لهجوم العدو وقبيل المعركة بثلاثة أيام يتحدّث زعيتر في يومياته عن حشود العدو الإسرائيلي على طول الجبهة الأردنية، وتطرق إلى ما شهده من مداولات في القصر الملكي حول الحشود الاسرائيلية والتحضير لعدوان على الأردن. وأشار إلى حديث الملك الحسين لزعيتر (وزير البلاط) وعبدالمنعم الرفاعي (وزير الدولة للشؤون الخارجية) عن أن هذه التحشدات والتحضيرات من جانب العدو تشبه تلك التي أجراها قبيل حزيران عام 1967م. وعبّر الملك الحسين عن خشيته من أن إسرائيل "ترمي من وراء حركتها إلى احتلال مرتفعات استراتيجية مهمة في الأردن، وأن تستقر فيها باعتبارها الحدود الآمنة لدولتها!".
وتحدّث الملك الحسين لهما عن عدم جديّة الدول العربية في دعم الأردن عسكرياً إذا تعرّض لهجوم العدو. وأضاف الحسين: " لم تعد المسألة مسألة صمود وصبر، وإنما هي مسألة الاحتفاظ بمواقعنا". وجرى حديث عن تشجيع بعض الدول العربية ومنها سورية للفصائل الفلسطينية على تكثيف هجماتها من الأراضي الأردنية في حين تمنعها من العمل من أراضيها، وعبر حدودها. وهنا تساءل زعيتر: "ما ذا نقول في من يقولون: لتحتل إسرائيل عمّان، لتحتل العواصم العربية، فذلك أفيد من ضبط الفدائيين"!. في إشارة منه لنظريات التوريط التي تبنّتها الفصائل والمنظمات الفلسطينية في تلك المرحلة.
* يوم الكرامة:
وفي صباح يوم المعركة يروي زعيتر أن تصريح الناطق العسكري الأردني (بيان رقم 1) جاء في الساعة السابعة صباحاً عبر الإذاعة الأردنية ليقول: " في تمام الساعة الخامسة والنصف من صباح اليوم قام العدو بشنّ هجمات في منطقة نهر الأردن الجنوبية، من منطقة جسر الأمير محمد (دامية) وجسر الملك حسين، واشتبكت معها قواتنا، ولا تزال مشتبكة في جميع الأسلحة. كما اشتركت طائرات الهيلوكوبتر من قبل العدو في العملية. وقد دُمّر للعدو لغاية الآن أربع دبابات وأعداد من ناقلات الجنود النصف مجنزرة والآليات الأخرى، ولا تزال المعركة قائمة بين قواتنا وقوات العدو حتى هذه اللحظة". وفي هذه الرواية الأولية المباشرة دحض لما ادعاه بعضهم لاحقاً من أن الجيش تدخل في المعركة في الساعة العاشرة صباحاً!!
وعندما وصل أكرم زعيتر (وزير البلاط) إلى مكتبه في الديوان الملكي، استمع الى بيان الناطق العسكري الأردني رقم 2، وسأل عن الملك الحسين، فأخبره سكرتيره الخاص السيد زيد الرفاعي: "إنه لم ينم الليلة، وهو في القيادة منذ بدأت المعركة، والمعلومات القادمة من مركز القيادة أن الجيش الأردني مستبسل في القتال، وأنه يوقع في العدو خسائر فادحة. وقد دخل مخيم الكرامة وهو الآن يشتبك بالسلاح الأبيض". وفي الساعة التاسعة والثلث صباحاً صدر البيان العسكري الأردني الرابع، أما البيان الخامس فقد صدر في تمام الساعة العاشرة صباحاً. وتتابعت البيانات العسكرية الأردنية، وجاء آخرها يحمل رقم 11 في ساعة متأخرة من الليل، وقد أجمل البيان الوضع العسكري: " تم تطهير أرضنا من فلول العدو في تمام الساعة الثامنة والنصف مساءً، وقد توقفت الرماية من قبل العدو".
* ما بعد الكرامة:
المعلومات الأمريكية
ويورد زعيتر في يوميات (18-3-1968م) أن الملك الحسين طلب من السفير الأمريكي المستر سيمز
(Harrison M. Symmes) في عمّان تفسير التحشدات الإسرائيلية على الجبهة الأردنية، فعاد السفير لمقابلة الملك الحسين ناقلاً جواب الحكومة الأمريكية: " إن السلطات الإسرائيلية أكدت أن لا تحشدات غير طبيعية، وأن لا نيّة مبيتة لعدوان. وأن الأردن يتوهّم ذلك لأنه يفترض أن إسرائيل لن تسكت على توالي أعمال الفدائيين أخيراً". وعاد زعيتر في يوميات اليوم التالي للمعركة 22 آذار1968، لينقل تحديثاً لهذه المعلومة عن السيد زيد الرفاعي(السكرتير الخاص للملك) " أن السفير الأمريكي المستر سيمز جاء ليلة وقوع العدوان إلى الديوان ليقول إنه يسحب كلامه الذي أكدّ فيه أن إسرائيل لن تهجم، وأن استعداداتها من قبل المناورات، وليؤكد ما اتضح به من نية غادرة لدى اليهود".
*الحسين: لست مكلفاً بالمحافظة على أمن إسرائيل
وتحدّث زعيتر عن رسالة الرئيس الأمريكي جونسون Lyndon B. Johnson)) التي كان قد أعدّها قبل وقوع معركة الكرامة، ووصلت السفير الأمريكي (Harrison M. Symmes) في عمّان بعد وقوع المعركة. ويتحدث جونسون فيها عن ما ينمّ عن طلب منع المقاومة من استخدام الأراضي الأردنية، وأنه أي جونسون قد أوصى رئيس الوزراء الإسرائيلي ليفي شكول ( Levi Eshkol ) بضبط النفس. وقد استاء الملك الحسين من لهجة الرسالة؛ فبادر إلى الرد على جونسون برسالة شديدة، ندّد فيها بموقف جونسون وموقف أمريكا، ومما قاله في الرسالة: "إن المعركة التي يُراد بها تدمير الأردن إنما يُستعمل فيها السلاح الأمريكي، ونحن نذهب ضحية الثقة بكم وبأمريكا، وأنا لست مكلفاً بالمحافظة على أمن إسرائيل".
*رفض الملك الحسين للطلب الإسرائيلي بوقف إطلاق النار
وفي اليوم التالي للمعركة تحدّثت يوميات زعيتر عن ما سمعه من الأمير الحسن بن طلال حول المعركة، حيث قال لزعيتر: "تصوّر أن كتيبة أردنية تقاوم لوائين وتتغلب عليهما. وقد ظنّ اليهود أن القضية ستنتهي بساعة واحدة يدخلون فيها البلاد، ويقومون بما يسمونها "عملية التأديب"، وإذا بهم يلقون مقاومة باسلة، 15 ساعة بالسلاح الأبيض.
وأرسل أود بُل ( Odd Bull ) كبير المراقبين على خطوط الهدنة، يقول إن إسرائيل تقترح وقف القتال وهي مستعدة له، ولكن جلالة الملك أجاب: " كيف نكفّ عن القتال والعدو يحتل أراضينا؟ فعليه أن يعود فوراً إلى ما وراء النهر، أي إلى مواقعه قبل عدوانه، وأن يكفّ عن القتال فنكفّ نحن. وأُعيدت المحاولة وقوبلت بالرفض القاطع. وصار همّ القوات الاسرائيلية الانسحاب بأقل ما يمكن من خسارة. ولكن هيهات هيهات فقد ظلت مدافعنا تقصفها وتدمّر آلياتها".
*تشييع شهداء الجيش العربي
وفي يومياته لليوم 22 آذار يتحدث زعيتر عن الصلاة على الشهداء وتشييعهم من المسجد الحسيني، وأنه لم يتمكن من الوصول إلى المسجد بسبب الحشود الكبيرة التي ملأت الشوارع المحيطة به.
*تشييع شهداء المقاومة الفلسطينية
ويقول زعيتر في يوميات (22 آذار 1968) اليوم التالي للمعركة: "ومما علمته أن شهداء المقاومة كثيرون، وأنه دُفن منهم في أرض المعركة في الغور أكثر من ستة وعشرين، وأنه سوف تُحضر غداً إلى عمّان (جثامين) نحو عشرين شهيداً لتُدفن في احتفال لائق". لكنه لم يعد للحديث عن مراسم التشييع في يومياته اللاحقة.
*هجوم إنتقامي للعدو على الشمال وأم قيس
تحدث زعيتر عن هجوم إسرائيلي يوم 29 آذار 1968 على المناطق الشمالية من وادي الأدن بالرشاشات والدبابات ومدافع الهاون، ومن هضبة الجولان على منطقة أم قيس، ويُدرج خسائر الجيش وخسائر العدو، ومنها إصابة طائرة للعدو فوق قرية فارة (الهاشمية) (محافظة عجلون ) وقد شوهدت وهي تتجه غرباً والنيران تشتعل فيها.
تبدّد إسطورة "إن إسرائيل لا تُغلب"
وفي نهاية آذار 1968 يصف زعيتر الحالة العامة في البلاد بعد معركة الكرامة: " المعنويات العامة جيدة جداً، بدأت ترسخ في أذهان الشعب أن المقاومة من دون طائرات ممكنة. وتبدّدت الأسطورة القائلة "إن إسرائيل لا تُغلب". والأنباء الواردة من الضفة الغربية المحتلة تنمّ على اعتزاز الناس بمقاومة الجيش واستعدادهم للثبات والصبر".
نحن في خطر وعلينا أن نتدبّر أمرنا !
وفي يومياته في مطلع نيسان 1968م يدوّن زعيتر عن زيارة الملك الحسين إلى مصر، ويروي تفاصيل حديث بين زعيتر والشريف ناصر بن جميل الذي كان يرافق الملك في الزيارة حول إمكانية أن تقدّم مصر العون والمساعدة للأردن في هذه الظروف عقب المعركة، فقال الشريف ناصر: " إنهم يعدون بالنصرة السياسية إلى أبعد حدودها، أما العسكرية فلا. قد يناوشون مناوشة لا ترفع عبء الجيوش الإسرائيلية المجتمعة على حدودنا. إن لوائين من اليهود يقفان على الحدود مع مصر، ولوائين آخرين يقفان على الحدود مع سورية، وأما بالنسبة إلى الأردن فهناك 17 لواء محتشدة، فالمصريون لا يشاغلون أكثر من اللوائين، وكذلك السوريين، فالخطر موجّه إلينا. نحن في خطر وعلينا أن نتدبّر أمرنا".
الحسين: ما جرى الاتفاق عليه مع عبدالناصر يخالف ما يعلنه عبدالناصر!
وفي الإسبوع الثاني من نيسان 1968م يروي زعيتر فحوى حديث جرى في الديوان الملكي بين الملك الحسين وزعيتر وزير البلاط الهاشمي، وعبدالمنعم الرفاعي وزير الدولة للشؤون الخارجية، وجرى التطرق لخطاب جمال عبدالناصر في مؤتمر المحامين العرب الأخير، "وما يحتويه من عزم على القتال، وتحريض عليه، وتأييد للفدائيين، وعبارات لا تختلف كثيراً عن العبارات التي كانت تُرسل قبل 5 حزيران وكانت من أسباب إثارة الرأي العام العالمي علينا، فأبدى الملك دهشته منه. إن ما جرى الاتفاق عليه مع عبدالناصر يخالف ما يعلنه عبدالناصر.
*عبدالناصر: "الشعب كان يطالبنا بالنجدة، ونحن عنها عاجزون"
وعن اللقاء ذاته يروي زعيتر، "واستعرض جلالته الحالة في الأقطار العربية، وتقاعسها جدياً عن نصرة الأردن، وتصاممها عن سماع صريخ الأردن؛ فمصر لا تستطيع أن تحارب. لقد استدعى عبدالناصر الفريق محمد فوزي( قائد أعلى للجيش المصري) وسأله حين نشبت معركة الكرامة في 21 آذار: " ما تستطيع أن تعمل؟ "، فأجابه " نطلق النار على اليهود"، أي أنهم يتبادلون القصف المدفعي فقط، ومما قاله عبدالناصر: " لقد أنقذنا النصر الذي حققه الأردن وإنتهاء المعركة في يوم واحد من مضاعفات داخلية لأن الشعب كان يطالبنا بالنجدة، ونحن عنها عاجزون".
*وصفي التل والكرامة:
ويورد زعيتر في يومياته أن وصفي التل بعد معركة الكرامة ببضعة أشهر صرّح لصحيفة الرأي العام الكويتية بتاريخ 20 آب/ أغسطس 1968م، بأن للعمل الفدائي فضلاً لا يُنكر، وأنه ما زال مبقياً على استمرار وإشعال النيران ومنعها من أن تخمد وتنطفئ، إضافة إلى تأمين المشاغلة المسلحة مع العدو منذ هزيمة حزيران 1967م، لكنّه حذّر من الركون إليه على بطولته وروعته، فقد عدّه مجرد أحد وجوه المشاغلة مع العدو، وطالب بإيجاد خطة عربية شاملة يكون العمل الفدائي دعامة رئيسة لها. وكان وصفي فوق إيمانه بالعمل الفدائي يؤمن بضرورة تواصله وتنسيق جهوده مع الجيش الأردني وضمن خطة عربية شاملة للمواجهة!
وفي هذه المرحلة كشف التل لصديقه زعيتر عن مواصلة مساعيه لوضع أفكار محددة لمعركة المواجهة مع العدوّ، يكون العمل الفدائي في قلبها. وأطلعه على مذكرة كان قد قدّمها للملك الحسين منذ أسابيع حول العمل الفدائي، ويعلّق زعيتر: "فالمذكرة ثمينة ومنطقية وجديرة بالدرس والاهتمام"، وأفصحت المذكرة عن تصوّر التل للتعاون المطلوب بين الجيش والعمل الفدائي، باعتباره ركناً من أركان الخطة الأردنية، وله دوره ضمن المجهود العسكري العام، ونادى فيها بضرورة تصعيد نشاطات العمل الفدائي وتطويره، ليصل إلى مرحلة حرب العصابات، لكي يصبح فاعلاً ومؤثراً ومشكّلاً عبئاً تعبوياً ثقيلاً على العدو، وبدا مؤمناً بإمكانية تكرار معركة الكرامة أكثر من مرّة.
لكن مجريات الأحداث بعد معركة الكرامة ذهبت في إتجاه آخر بفعل أخطاء العمل الفدائي وجنوح الفصائل إلى التضليل الإعلامي، والإنكفاء إلى المدن ومقارعة الدولة ومنازعتها السلطة والسيادة، وكذلك بفعل أخطاء الحكومات الضعيفة في التعامل مع العمل الفدائي، والعجز عن تنظيمه وتأطيره في سياق المصالح العليا للدولة الأردنية والقضية الفلسطينية.