الهوية العربية كما نفهمها
د. صبري ربيحات
19-03-2024 12:42 PM
على الصعيد الجماهيري يحمل لفظ العروبة معنى واحدا يتبدى في ملامح وجوهنا وبلاغة لغتنا وحدة مزاجنا وكرم أخلاقنا وسماحة ادياننا ومروءة رجالنا وعفة نسائنا واستعدادنا للموت دفاعا عن قيمنا وشرفنا وارضنا .
هذه الملامح موضع إجماع لا اختلاف عليه و لا فرق في فهمها بين ساكن اليمن ولا ابن موريتانيا و لا يختلف شعور الاردني حيالها عن المصري او العراقي او السوداني فكافة ابناء الشعوب العربية يؤمنون بأننا امة واحدة وسنبقى كذلك بالرغم ان بلادنا قسمت وزرعت فيها انظمة متعارضة وبالرغم من وجود من يعزز الفرقة ويزرع بذور الخلافات ويدفع بمن يخططون لنا بان يعيدوا صياغة المناهج كي يجري تجريف هذه الاسس وتوليد اتجاهات معاداتها باعتبارها تحمل مظاهر التخلف وتحد من القدرة على الاندماج في ثقافة العصرنة والسلام .
بالنسبة لجيلنا نحن الذين عشنا مرحلة احلام ما بعد التحرر والاستقلال لا تزال ارواحنا متعلقة بالوحدة وخيالنا متخم بالاحلام فقد تشربت نفوسنا المعتقدات والشعارات واستمرينا الاشعار والافكار واستدخلنا القصص والاساطير عن أمتنا التي سادت الدنيا وعلمتها الحرف والرمز والمعادلة نحن كنا ولا نزال نؤمن بأن " بلاد العرب اوطاني ..من الشام لبغداد .....ولنا مدنية سلفت.....وحرف الضاد يجمعنا "
المؤسف بحق ان الامور قد تغيرت والدنيا لم تعد الدنيا فالعروبة هذه الايام مفهوم مفرغ من الكثير مما كان يعنيه .لقد اصبح كسفينة ارتطمت بصخرة فتشقق جسمها . او كشجرة تسلل لجذرها السوس لينخر في ساقها ويعتري أوراقها التعب والذبول.
في عالم يخضع لهيمنة القوى الاستعمارية الكبرى اصبحت العروبة تجريد تتباين مدلولاته من موقف لاخر ومن جهة لاخرى .فبالنسبة للشارع العربي حقيقة ازلية اصابها بعض الوهن .وبالنسبة للانظمة هيكل وشعار وبالنسبة للغرب كتلة بشرية يمكن ضبطها والتحكم فيها من خلال قادتها وانظمتها دون الحاجة الى ارضاء شعوبها .
التباين الواضح في نظرة الفرقاء للعروبة كان العامل الاهم في تعميق الازمة وايجاد مسوغات متعددة للخرق والتمادي والاغراق في الانتهازية السياسية .
في الفضاء السياسي العربي الجديد لم يعد لقيم النخوة والمروءة والكرامة واغاثة الملهوف ونصرة الاخ ومجابهة الظلم ورد المعتدي مكانة واثرا على المواقف والاتجاهات والسلوك بقدر تأثير قيم المنفعة والعصرنة والكسب والارضاء والتجانس والتنسيق والسلام.
مقابل قناعات النظام الرسمي العربي لا يزال المواطن العربي متخما بالمضامين الغنية للثقافة العربية فالغالبية العظمى من الصغار والكبار يمتلكون مخزونا ثقافيا قوامه كم كبير من الآيات القرآنية والاحاديث النبوية الشريفة والاعراف وقصص التراث والاشعار والحكم والمآثر والحكايات الشعبية والبطولات الوطنية والدروس والاحداث التي تترجم الوحدة بافضل تجلياتها وبصورة يفهمها الصغير قبل الكبير ويتمثلها الجميع من غير جهد او عناء .
معضلة العالم العربي اليوم ليس في تباين الهوية بل في الضعف الناجم عن فقدان الارادة .او بعبارة أدق سلب الارادة وتجريد الإنسان العربي منها وتجييرها لخدمة أغراض المستعمر والطامع والمستغل .
في الحرب التي شنها الاحتلال والقوى الاستعمارية على ابناء غزة تكشفت اوضاع الامة العربية وعمق تصدعاتها وتنوع اجندات انظمتها.
لقد كانت المرة الأولى التي ظهر فيها حجم التباين بين أولويات الانظمة و مطالب وامال الشعوب وبين الاولويات الفعلية للانظمة العربية وبين ما تدعي او تعلن من أهداف.
لا اعرف كيف سيتعامل التاريخ مع هذه الحقبة وماذا سيكتب الذين سيأرخوا لهذه المرحلة التي رفعت فيها الامة شعار تحرير الارض العربية من الاحتلال الصهيوني ووقفت عاجزة عن إسناد المقاومة الفلسطينية التي اخذت على عاتقها تحريك القضية وردع الغطرسة الإسرائيلية والوقوف في وجه الظلم والقتل والعدوان...لا اعرف ما سيقوله التاريخ عن موقف السلطة والفصائل الفلسطينية التي وقفت متفرجة ومنددة بالمقاومة ولا اعرف ما سيقال عن الذين تجاهلوا المجاعة والموت والهواء واكتفوا ببيانات رفع العتب....المسألة معقدة لكنها مؤقته وسينجلي الليل وينكسر القيد وتشرق الشمس ونرى جميعا النور.