معوقات الحال التربوي واكراهات الواقع الحالي
فيصل تايه
14-03-2024 01:27 AM
في الوقت الذي ما زالت فيه "التقارير" تعتبر الأردن من الدول الرائدة في مجال التعليم على المستوى العربي ، الا ان ما يعانيه الحال التعليمي في السنوات الأخيرة من تحديات ومعيقات وتراجع إلى مرتبه غير متوقعة وفق تقارير دولية ، سيراً إلى منحنيات تنذر بوجود أزمة حقيقية تجتاح نظامنا التعليمي الذي يعاني من مشكلات في مدخلاته وعملياته أثرت على مخرجاته ، على الرغم من التطور الذي شهدته المرافق التعليمية إلا أن هذا التراجع يشعرنا "بتزعزع" الثقة في مؤسساتنا التعليمية التي كان يشهد لها بالقدرة والكفاءة العالية ، فما كشف عنه وزير التربية والتعليم ووزير التعليم العالي والبحث العلمي الدكتور عزمي محافظة من تصريحات جاءت لتضع المجتمع الاردني امام واقع لا يمكن السكوت عنه ، ذلك ان نسبة فقر التعلم "ارتفعت" ربما إلى أكثر من (٦٠) بالمئة ، حيث إنّ التعليم في العقد الأخير تراجع مستواه ما أدى إلى ذلك ، اضافة الى لفت النظر بوجود طلبة في الصف العاشر بمدارسنا لا يعرفون القراءة ولا الكتابة ، بعد اجراء دراسة دولية جاء في تقريرها "وجود" طلبة لا يقرأون ولا يكتبون ، وعزى "الوزير" ذلك الى السياسات المتبعة على مدى عمر المنظومة التعليمية ، ناهيك عن ظاهرة تغريب التعليم التي تشكل مشكلة أكبر من الطبقية واستفحال نسب التسرب المدرسي ووصولها الى مستويات غير مسبوقة ، ولا يخفى ايضاً العديد من المشكلات المتعلقة بالميدان التربوي وغيرها ..
اننا ونحن نطلق الصرخة مدوية لتدارك ما يحصل ، فلا مجاملات على حساب الوطن ، ولا يمكن ان نحمل وزير "سابق" او وزير "لاحق" المسؤولية ، بسبب تبدل وزراء التربية والتعليم المستمر تبدل "الفصول الاربعة" ، وان على الحكومة وكافة المعنيين بالهم الوطني وخاصة واقع نظامنا التعليمي ، البدء الفوري بسلسة اجراءات من شأنها معالجة الوضع التعليمي برمته ، بالاستناد الى مراجعات معمقة لمجمل التحديات باعادة النظر بالانظمة واللوائح والإجراءات منتهية الصلاحية ، التي اضاعت الجهود واوقعتنا ضحية النهج التقليدي الذي أعمى البصر ، والتي باتت لا تتناسب مع الواقع المستقبلي الذي يسير نحو العولمة واقتصاد المعرفة ، اضافة الى وضع الخطط العلاجية الفاعلة سواء لمرحلة التعليم الأساسي او الثانوي او رياض الاطفال أو تدريب وتأهيل المعلمين أو نوعية التعليم ، ومعالجة ظاهرة التسرب المدرسي وقضايا العنف وغيرها ، بالاضافة الى توطيد العلاقة بين الميدان والمركز وتشخيص المعضلات التي تواجه ذلك ، للانطلاق إلى مستقبل يعيدنا الى الصدارة .
ان تفكيرنا يجب ان يكون خارج الصندوق ، فالاعتراف بجوانب الخلل او القصور والسعي لاستدراكها امر لا بد منه ، وموقفاً منطقياً واقعياً واضحاً يضع اليد على الجرح من اجل إجراء التقييم العلمي للعملية التعليمية برمتها ، بالاستعانة بكافة الخبراء التربويين ، مع ضرورة مزامنة ذلك مع غربلة الانظمة والقوانين والتعليمات وتخصيص الميزانيات وتوجيهها لمختلف جوانب العملية التعليمية بشكل مؤثر ، والجدية قي الالتفات إلى واقعنا التربوي بمسؤولية كاملة من خلال اعترافنا الصريح بان العديد من مؤسساتنا التعليمية باتت تفرّخ نسبة كبيرة من الأجيال الفارغة التي لا تمتلك إلا المعلومات المجوفة التي لا سبيل إلى ترابطها ، وهذا يقودنا إلى مركزية التعليم في عملية التنمية الشاملة ، وفي الصميم منها الدور المحوري للمعلم كصانع للأجيال وحجر الزاوية في معادلة التنمية والتعليم .
يجب أن نعي أن الوقت يمر سريعا ومعه يتضح حجم التخبط الكارثي الذي كان متراكما عبر سنوات التوريث والترحيل للقضايا والمشكلات التربوية ، خاصة خلال العقد الأخير الذي اشار اليه الوزير في تصريحه ، فقد توضحت الحقائق ، وآن لنا أن ندرك أن عجلة إصلاح التعليم يجب أن تسير بوتيرة تامة وبسرعة أكبر لإنقاذ مستقبل الأجيال وتصحيح المسار الذي لن يكون إلا بالتعليم المؤثر والجيد ، ما يحتاج إلى إعادة تقويم العملية التعليمية بشكل شمولي والعمل على تصنيف عناصرها وتحديد مستوى المدارس والمدراء والمعلمين والطلاب على حدٍ سواء ، إضافة إلى إيضاح المعايير الحقيقية الصحيحة التي تمكننا من المضي قدماً من أجل إصلاح الوسائل والخطط وتحسين المستويات ، ما يعطينا تصنيفاً حقيقيا وواقعياً واضحاً للمدارس يمكن أن نبني علية القدرة على تحديد مستويات تلك المدارس ، بل يفرض علينا استخدام معايير واضحة لتصبح أدوات إصلاح وتغيير لرفع مستوى أداءها وتحسين قدراتها ومخرجاتها التعليمية ، ولن يتم ذلك إلا على أيدي خبراء تربويين متمرسين قادرين على التقييم العلمي الحقيقي السليم .
انا اعتقد أن ما وصلنا اليه يعود بالتأكيد إلى تردي مستوى مخرجات نظامنا التعليمي الناتج عن أخطاء جسيمة ارتكبت في تشخيص طبيعة المعضلات التي يعاني منها ، ما أوصلنا إلى ما اعتقدنا خطأ أنها حلول ، بينما هي في الواقع تعقيدات إضافية تسببت في تراجع مستوى التعليم لا في تحسنه ، ذلك ما يشير الى الخلل الذي كان واضحا في هياكل مؤسساتنا التعليمية إدارياً وتعليمياً ، وافتقارنا لبرامج رقابة عالية الكفاءة تضمن فاعلية التنفيذ ، فتكون النتيجة أن يزاد التعليم تراجعاً في الوقت الذي نظن فيه أننا نقوم بجهود لتطويره ، ومن ثم فقد ترتب على سوء تشخيص مشكلات نظامنا التعليمي عدم مناسبة الحلول التي وضعت للتعامل مع تلك المشكلات ، ما زادها تفاقماً بدلاً من أن تحل ، وما لم نتعامل مع هذه المشكلات بشجاعة وحزم فسنظل ندور في حلقة مفرغة يتراجع معها تأهيل مواردنا البشرية ونفشل في التأهل للمنافسة على المستوى العالمي .
كنا نحذر على الدوام من أننا بحاجة ماسة إلى تطوير القدرات البشرية خاصة عند القيادات التربوية ، ذلك أنها ما زالت تفتقر للمهارات الإدارية المتعلقة بكيفية اتخاذ القرارات المستندة على المعلومة ، وتعزيز مفاهيم الإدارة في التنظيم والمتابعة والتقييم من خلال وضع الخطط متنوعة المستوى الزمني ، مع ضرورة المتابعة المركزية للأداء المحلي لأن المهمة الأساسية دعم اللامركزية والإشراف والمتابعة والتخطيط المركزي والنزول للتفقد والاطلاع عن كثب ، وكم ذكرنا بان الميدان يجب ان لا يسبق الوزارة في ذلك ..
إننا بالفعل بحاجة ماسة الى امتلاك المعرفة النظرية في مجال الفلسفة التعليمية والرؤية التربوية الشاملة لتنفيذ الأهداف والسياسات وتطبيقها والإعداد للمهنة ، واعتماد مؤسسات تربوية تدريبية معنية بإعداد وتدريب وتأهيل المعلمين ذات جودة وكفاءة عالية ، وتوسيع الشراكة مع اكاديمية الملكة رانيا لتدريب المعلمين ضمن برامج تربوية عصرية مع دراسة مستمرة لأثر التدريب ومواءمته للواقع التعليمي داخل الغرف الصفية ، لان المعلم المؤهل تأهيلاً علمياً وتكنولوجياً عالياً هو مفتاح عملية التنمية الإنسانية الشاملة ، بل عامل مهم وحاسم في نجاح او فشل العملية التعليمية التربوية في أي مجتمع من المجتمعات النامية او المتقدمة ، لذلك فان علينا ان ندرك اننا امام تحديات معرفية وعلمية وتكنولوجية هائلة وضخمة اذا لم نستوعبها استيعاباً جيداً سنظل ندور في حلقات التلقين والحفظ.. ونكون بعيدين كل البعد عن مفاهيم العولمة والتوجه العلمي المبرمج، وثورة المعلومات والاتصالات ، ولذلك علينا الابتعاد عن السياسات العشوائية والارتجالية غير المدروسة ..
وأخيرا وان اطلت ، فان على القيادة السياسية أن تأخذ بيد الشرفاء من التكوين التربوي العتيد وان تعتبر ذلك اولوية وطنية تتحمل فيها أمانة الإصلاح والتغيير وأن تنظر باهتمام كبير وعميق إلى مؤسسات التعليم لأنها المدخل الوحيد إلى التغيير المرجو ، كما ويجب وضع كل الإمكانات والكفاءات والقدرات فيها والتعامل معها بخصوصية تامة لترسو إلى بر الأمان ، فتلك هي مهمة وطنية وأخلاقية وإنسانية سيحاسبنا التاريخ والأجيال عليها ..