هل الصحافة رسالة؟ وهل يجب أن تحمل المقالة هدفا محددا، أو تطرح قضية؟ أتماهى مع الذين يؤمنون بهذه النظرية في عالم الصحافة تماما، لكني أفعل العكس ومقتنع بضرورة الخروج على قيم الأساتذة الكبار، الذين كانوا يؤمنون أن الصحافة رسالة ولها غرض وان للإعلام برمته دورا مأمولا في تشكيل الرأي العام، والتأثيرعليه، لكنني قد أخون وصايا أولئك الذين علموني كعادتي، وحين تنتهي العلاقة بهم سوف أعترف أنني خسرت الطاعة واخترت طريقا مخالفا دائما.ومثلي من يربح التمرد والخروج على صف طاعة أولي الامر وفي نفس الوقت يظل يبالغ في الندم وغسل خطاياه حتى يتطهر ويربح الأجر، وراحة الضمير، فيكسب الجهتين، وربما يخسر الكل دون ان يدري أنه الخاسر الاكبر، وأن مغامراته كانت مكشوفة، وعلى من تقرأ مزاميرك يا داود.
لكن المشكلة حين يكون لدى الإنسان ضمير حي، والضمير الحي لا يحتمل الكذب الذي كنا نمارسه على آبائنا، ونمارسه اليوم على أبنائنا، وأصعب وضع يجد المرء نفسه فيه حين يأخذ دور الناصح الحكيم وهو يوجه أحد أبنائه للإبتعاد عن عمل ما كان هو يمارسه بكل متعة، وقد حاولت تمثيل ذلك على أولادي لكنهم على ما يبدو كشفوا امري، ولم يأخذوا نصائحي على محمل الجد، ولو شئت الان أن أفلسف المسألة وأذهب لكسب شعبية في اوساط القراء لضربت مثلا على ما قلت وشبهت النصائح التي تقدمها الولايات المتحدة للسلطة الوطنية الفلسطينية وللدول العربية وهي تمارس عكسها تماما، أو قمت مثلا بتشبيه حال الديمقراطية في عالمنا العربي بديمقراطيتي المنزلية والتي تسير في اتجاه واحد نفذ ولا تناقش، وإن ناقشتَ ستحرم من الدعم المالي، ولكني سأكون امينا مع نفسي وأقول أنني أقحم العام بالشخصي لا لهدف إلا لكسب ثقة القارئ بينما العيوب فينا وبيننا ونحن نمارسها، وأسوأ ما في الكتابة تحميل الشخصي قدسية، وإعطاء الكاتب لنفسه أهمية لا تبارى، على مبدأ (شوفيني يا خالتي)، رحمها الله.
أفكرأن أكون امينا، وأعترف مثلا أنني امارس الدور ونقيضه في الكثير من الحالات فحين أقوم بتأنيب أحد الاولاد، على عمل معين أتغاضى عن نفس العمل لو قام به ولد ثان، ازدواجية معايير ولا أخلاقية، لكن لا أحس بأي نوع من تعذيب الضمير فهو مرتاح تماما، لماذا؟ لأنني تصالحت معه وقلت واحدة من اثنتين يا ضميري، إما أن تظل حياً وأموت هما وقهرا، وإما أن أقتلك واطلق عليك رصاصة الرحمة قبل ان تقتلني، ولنعترف جميعا أننا نعير ضمائرنا كثيرا، وننتقد شيئا معينا أو شخصا ما ولكننا حين يأتي هذا الفعل أو الكلام من قبل شخص أو زميل آخر نراه عملا بطوليا، أو نغفر له ما فعل، وقد نزينه ونجمله.
في السياسة كما في الحياة لا ضمائر تحكم العالم ولهذا لم يفهم الشعب الفلسطيني حتى اليوم لماذا يصم العالم آذانه عن معاناته بينما ينهض لحل أي مشكلة عالمية، ساهم في حل مشكلة البوسنة والهرسك وتدخل في يوغسلافيا وفي الصومال والعراق وافغانستان، وفي اقليم دارفور في السودان، وحمل كل ثقله وأفرج عن الممرضات البلغاريات، فلماذا لم يقبل حتى مجرد ارسال قوات دولية إلى قطاع غزة او الضفة الغربية؟ ولماذا لا يغضب العالم حال عدم تطبيق القرارات الدولية التي تؤيد حق الشعب الفلسطيني، بينما يتحرك ليلا نهارا في أماكن أخرى كثيرة من العالم.
الجواب بسيط وهو أن العالم بلا ضمير حي فالمصلحة هي التي تحدد النزاهة والشرعية والحقوق، ونحن لسنا ملائكة فما نقوله في الشرق قد لا نقوله في الغرب، والجرم الذي يقترفه صديق أو قريب مجرد خطأ، بينما نفس الفعل حين يعمله شخص بيننا وبينه كراهية يكون جريمة، وكانوا إذا سرق فيهم الغني تركوه وإذا سرق الوضيع أقاموا عليه الحد.
(أرض النفاق) كما كتب يوسف السباعي، أو (مجتمع الكراهية) الذي تحدث عنه المرحوم سعد جمعة، أو ما ذهب إليه فرانس فانون الطبيب وعالم الاجتماع الكاريبي الذي التحق بالثورة الجزائرية وناضل معها وكتب كتابه الشهير(المعذبون في الأرض)، وخلص إلى نتيجة مفادها أن ما أخذ بالقوة لا يتسعاد بيغرها وهو القول الذي اقتبسه عنه الراحل جمال عبدالناصر قبل أن يسلم الروح ويتولى نائبه الحميم قيادة مصر ويذهب إلى تفنيد مقولة ناصر وفانون ويستعيد سيناء بلا قوة.
ماذا كتبت؟ هل قلت شيئا مهما، لم يقله غيري، هل صنعت فتحا مبينا في الكتابة، أم هل أسأت للزملاء الصحفيين الجدد الذين أدلوا بقسم المهنة أمام رئيس الوزراء، ولماذا أقسموا؟ وكيف قبلتهم النقابة، وما هي المدارس التي جاؤوا منها، وينتمون لها، والطموحات التي تملأ رؤوسهم، ام هل هم مثلي يؤمنون ان الصحافة مجرد عمل يأتي بدخل شهري ثابت، ترى كم أصبح تعداد أعضاء النقابة وأين وصلوا في إسكان الصحفيين، هل ضغطوا باتجاه زحزحة موقف الأمانة للتبرع بالتخطيط وإقامة البنية التحتية، أم تركوا ذلك للأجيال اللاحقة، التي ستقسم بعد عشرات السنوات؟
اسمحوا لي أن اخرج من المقالة فلا أعرف كيف يمكن ان أختم، بعد ان ورطت نفسي في ألف قضية وقضية، ولتكن الحكمة، أكتب كل شئ ولا تقل شيئا، راوغ في الكتابة كأنك تكتب شيئا ولكن لا تسجل على نفسك
موقفا او ظنا، أو عدوا.
Musa.hawamdeh@gmail.com