تداعيات مصادمات يوم الجمعة "المعيبة" بين جماعة "24 آذار" المطالبة بإصلاح النظام عبر تعديل الدستور وحشود "نداء وطن", يتجه الأردن صوب إرهاصات من الفوضى والاضطرابات يرفضها الحاكم لا المحكوم.
ليس من المستبعد أن تتناسل الأزمات بسبب غياب موقف واضح لمطبخ القرار السياسي حيال سقف الإصلاحات السياسية المطلوبة والمقبولة, بينما تتحرك قوى اجتماعية وتيارات شعبية من دون أجندة واضحة. وهناك تيار إسلامي منظم يرى فرصة سانحة لفرض مطالبه عبر ركوب موجة الشارع المتحرك على وقع الثورات العربية ضد الأنظمة المتكلسة.
المقلق وجود تيار عريض داخل مفاصل السلطة أو مقرب منها, يروج لنظرية سطحية ولا يرى منظّروه أبعد من أنوفهم. هذا التيار يصر على أنه لا يجوز الخضوع لبضعة آلاف يتظاهرون في الشارع منذ ثلاثة شهور, وسط حضور رئيس للإخوان المسلمين الأوسع تأثيرا. ويرفض هذا التيار ترك هذه الفئة لتفرض على النظام أجندتها السياسية "الغوغائية", بينما الغالبية الصامتة قد تختلف معهم ولا تؤيد ما يذهبون إليه أو "السقف" الذي يتحدثون عنه. برأي اصحاب هذا الموقف, لم ينزل الشعب للشارع, ومن يتحرك فيه اليوم هم جمهور أحزاب المعارضة, محدودو التأثير.
في المقابل يستمر حال إنكار في أوساط النخب التي لم تتفق بعد على قواسم مشتركة, من هول صدمة الثورات الشعبية التي تدق بوابات جميع الأنظمة العربية, وإن بدرجات متفاوتة. هذه النخب تجهل كيفية التعامل مع الحراك المتسارع في الشارع. وهي تخشى على مصالحها المتداخلة مع السلطة وتفتقر إلى مقاربة واضحة من الإصلاح.
يفاقم الوضع أن حكومة د. معروف البخيت, محافظ سياسي متنّور يعكس البيروقراطية البرجوازية المتطورة- غير قادر على اعتماد موقف موحد مع مفاصل الدولة السياسية والأمنية, حيال حدود "الإصلاحات الآمنة" لحماية النظام وضمان أمن البلاد واستقرارها.
لذا, فهم عاجزون عن طرح برنامج عمل واضح حول طاولة حوار مع المعارضة وقوى تمثّل مكونات الدولة بهدف التوصل إلى توافق حول حدود الإصلاح, بما في ذلك نوعية التعديلات الدستورية لتجديد النظام السياسي وكيفية الوصول إلى الهدف ضمن برنامج زمني واضح وقابل للقياس.
اليوم صار الكل يغني على ليلاه, كأوركسترا نشاز خارج الإيقاع من دون مايسترو.
حكومة تزحف ببطء السلحفاة وتتعرض لتأنيب الملك عبد الله الثاني داخل الغرف المغلقة وفي العلن, بحسب قراءة بين سطور رسالته الأخيرة التي أكد فيها انه لن يلتمس أعذارا بعد اليوم تبرر الإخفاق في إحداث إصلاحات شاملة, مكافحة الفساد, حرية الجامعات سياسيا وإصلاح الإعلام.
بطانة العرش, كحال غالبية مستشاري القصر, غير قادرة على تقديم تصور واضح لما يريده الملك الشاب منذ جلوسه على العرش عام ,1999 ما شجّع ساسة على المراوحة والالتفاف وبالتالي عمق فجوة الثقة بخطاب التحديث.
الأخطر أن ذلك التخبط عزّز قناعة واسعة بغياب إرادة سياسية حقيقية بالإصلاح خارج إطار خطوات تجميل موسمية لتنفيس الاحتقان الشعبي وإسكات المانحين الغربيين.
إذا, الدولة بكل مكوناتها الرسمية والشعبية تتكلم عن الإصلاح - لكن لم يبرز من هو قادر على تحديد جوهر الإصلاح وكيفية تحقيقه - باستثناء الإخوان المسلمين المتأثرين بأجواء الثورات المجاورة التي فتحت الطريق أمام مشاركتهم في السلطة. كما مكنّهم حراك الشارع من تسديد حساباتهم "البايتة" مع د. البخيت المتصلة بتزوير انتخابات 2007 وقبلها قراره بمصادرة قرار جمعية المركز الإسلامي, ذراع الإخوان المالي والسياسي.
أخطأ الإخوان عندما استمروا في مقاطعة لجنة الحوار مع أن القصر والحكومة استجابا لغالبية مطالبهم من حيث توفير مظلة ملكية للجنة, وقبول إدراج بند الإصلاحات الدستورية, إلى جانب تغيير قانوني الانتخاب والأحزاب ضمن مدة أقصاها ثلاثة أشهر.
يالتلازم, توفر سحب الإقليمية والجهوية المستحكمة وقودا لتغذية الفجوة الطبقية والفقر والبطالة, حول مفهوم الإصلاح.
البعض يريد الإصلاح مدخلا لأن يكون جزءا من الفساد ولعبة تبادل المصالح داخل مفاصل الدولة. آخرون يريدونه من خلال تعديل قانوني الانتخاب والأحزاب ومحاربة الفساد. فئة ثالثة تطالب بتعديلات دستورية تعزز من دور مجلس الأمّة, ممثل الشعب, في المحاسبة والمراقبة. مجموعة رابعة, بمن فيها قيادات إخوانية بارزة, تريد إصلاحات دستورية تقلص من صلاحيات الملك وتؤدي إلى انتخاب رئيس الوزراء والأعيان لأنها تعتقد أن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة.
بين هذا وذاك يطالب قطاع واسع من المجتمع بتحديد العلاقة الأردنية-الفلسطينية ببعدها الداخلي من خلال الإصلاح الذي يؤدي لبناء دولة المواطنة, على أسس الكفاءة والتميز وفصل السلطات. وهناك طبقة مبتغاها فرص عمل, طعام, وبعدها حرية, كرامة, وحق التعبير والتجمع .
إذا كل من المطبخ السياسي والمعارضة السياسية القديمة والشبابية الصاعدة والشارع المحتقن يدفعون في اتجاهات متناقضة. وهنا مكمن الخطر الحقيقي في غياب قيادة واضحة تحدّد وجهة الحراك وتقوده.
تداعيات الصدام الذي تفجر عصر الجمعة ستستمر على وقع استنهاض أدوات عفى عليها الزمن لتقسيم الشعب إلى موالٍ ومعارض وتعميق الاستقطاب. أولى ضحايا هذا التخبط هي لجنة الحوار الوطني التي دخلت غرفة الإنعاش بعد استقالة نحو ثلث أعضائها احتجاجا على أحداث ميدان عبد الناصر. الرهان الشعبي والسياسي كان كبيرا على رئيسها طاهر المصري الذي تؤهله صفاته لإحراز إصلاحات سياسية تاريخية من خلال لجنة مثلت غالبية قوى المجتمع باستثناء الإسلاميين.
أعضاء اللجنة المستقيلة انحازوا لقوى "24 آذار" بعد سقوط شهيد وأكثر من 100 جريح خلال فض الاعتصام المفتوح بالقوة عندما تداخل الحابل بالنابل: قوى الدرك, الشرطة, "البلطجية" وجماعة الاعتصام و"نداء الوطن" الذين زحفوا صوب الميدان بعد مهرجان تجديد البيعة والولاء شارك فيه أضعاف مضاعفة.
مجلس النقابات المهنية أعلن السبت انحيازه لجماعة "24 آذار". والحبل على الجرار.
بعض الوزراء محرجون من المواجهات. لكنهم لن يغامروا بقطع الجسور مع القصر ولا يريدون طعن الرئيس في الظهر في هذه الأوقات العصيبة عبر الاستقالة. مجلس النواب ذو الغالبية المحافظة قد يصدر قرارا بتبني الرواية الرسمية, التي بررت التدخل لفض الاعتصام, رغم محاولات بعض رموزه الديمقراطية إبقاء المجلس خارج لعبة الاصطفاف, حتى لا يدخل في مواجهة مع الحراك المجتمعي. الإعلام أيضا منقسم.
من جهتها, دخلت حكومة د. البخيت, صاحب تجربة سابقة سيئة مع الإسلاميين, في مواجهة جديدة معهم حين رفع نبرة انتقاده لهم في برنامج "ستون دقيقة". البخيت حمّلهم مسؤولية تنظيم الاعتصام المفتوح عند دوار الداخلية بعد تلقيهم تعليمات من إخوان مصر, الذين لعبوا دورا بارزا في تأطير الحراك الشعبي في ميدان التحرير والإطاحة بحسني مبارك قبل أسابيع.
لكن من رحم كل مصيبة تخرج فرصة.
الأمل الآن أن يتحرك الملك شخصيا لإدارة ملف الإصلاحات السياسية, على غرار ما حصل مع والده الراحل الملك الحسين عندما شكل لجنة الميثاق الوطني عام 1990 بعد أن حدّد المطلوب منها في إطار العودة إلى مسار الديمقراطية. الملك الحسين أدار تلك اللجنة عبر حوارات مباشرة مع أعضائها وعبر تشجيع الحوار بينهم للوصول إلى توافق حول متطلبات المرحلة.
بالتزامن, علينا تشكيل فريق عمل استراتيجي يحسب التكاليف المترتبة على كل خطوة إصلاح وإمكانية التعايش مع المخرجات. عندما تعرف الدولة ما تريد, ستتوحد مراكز القوى على رؤية مشتركة تطرحها للنقاش مع المعارضة على الورق وليس في الهواء, بدلا من استمرار خطاب الإصلاح الرسمي المبعثر واتساع فجوة الثقة والمصداقية.
بعدها يتم تشكيل لجنة سياسية ذات وزن واعتبار تعطي الشرعية لمخرجات الحوار بين السلطة والمعارضة, ثم ترسل إلى مجلس الأمّة القوانين الناظمة للحياة السياسية والإصلاحات المنشوده.
فالإصلاح لن يتقدم إلا إذا قاده الملك شخصيا بعد تحديد الأطر المطلوبة.
غالبية الاردنيين يريدون تغييرا وإصلاحا على نمط ما حصل في تونس ومصر وما سيحدث في المغرب مثلا, من دون ثورات أو اعتصامات في الساحات والميادين.
ويريدون أن يقود الملك التغيير.
فهل ينجح الأردن وقيادته في تقديم نموذج مغاير للتغيير الديمقراطي السلمي في المنطقة بعد مراجعات نقدية قاسية وجذرية وربما مواجهات مع قوى متنوعة لا تريد أن تفرط بامتيازاتها?
بانتظار ما ستحمله الأيام من مفاجآت.
rana.sabbagh@alarabalyawm.net
العرب اليوم