من يتأمل راية عمان الكبرى سيحتاج إلى قلب شاعر؛ كي يلتقط إشاراتها الخفية بكل حب. وسيحتاج لعقل متفتح؛ كي يستطيع أن يختصر مدينة تمتد إلى أبعد من تسعة آلاف عام، أي منذ التجمعات البشرية في عين غزال وقريتها الأولى في الألف السابع قبل المسيح عليه السلام. نحن نحتاج لروح رحبة لنقرأ أن الراية بيضاء جبال مختلفة الألوان، فأهلها جاؤوا من أعراق ودماء وديانات مختلفة، ومع هذا ظلّت منسجمة متناغمة كقطعة من سمفونية.
ومن يتأمل الراية من جديد سيقول: عمان مدينة عصرية، قابلة للحياة، مقبلة عليها، ولهذا كُتب اسمها بطريقة شبابية. الشَّدة فوق الميم على هيئة حمامة. عمّان منذ ولدت وهي مدينة للسلام والحب الأخوي. لم تقفل بابها بوجه أحد وتستوعب من يسكنها وتعطيه قلبها.
بعد غد يحل يوم عمان. وهذه خطوة طيبة أقرها مجلس الوزراء لتكون ذكرى سنوية في الثاني من آذار والذي جاء في ذكرى وصول الملك عبدالله المؤسس إلى المدينة واتخاذها عاصمة للإمارة عام 1921. أحيي هذا الخطوة حالما أن تقوم أمانة عمان بالاحتفاء سنويا بالمناسبة، ولكن بطريقة عصرية تبتعد عن الشعاراتية والمنبرية. نريد أنشطة تشاركية اجتماعية تشعرنا أننا في حضن من نحب.
من الجميل أن يكون لعمان يوم نحتفي بها، ونقدرها ونتلمس مواطن جمالها، ونحبها حقاً كما يحب الناس مدنهم. يوم يحتفل فيه كل العمانيين وغيرهم ممن يقيمون على أرضها وفي حنايا قلبها. مع أن قلة من سكانها يقولون بالحروف الأولى أنهم عمّانيون. بل أكثر ما نسمع من كل واحد منهم: أنا عماني من عجلون، أو عماني من السلط، أو أريحا أو الخليل.
وكل هذا لن يقلل من محباتنا لها. فالمهم أن نعي أن المدن العظيمة لا تقيمها الجسور العالية ولا ترفعها الأبراج ماخرة الغيوم ملامسة النجوم. المدن العظيمة لا تسيّر أعمالها الأنفاق الذكية والشوارع النظيفة اللامعة ذات البهجة فحسب. بل المدن بأهلها وبأخلاقهم وقلوبهم ومحبتهم وانتمائهم لها. فلن تتقدم مدينة يتخذها سكانها فندقاً عابراً للأسفار والأعمال.
نريد عمان أن تتأنسن من جديد. بعد أن انقلبت إلى حجر أبيض وقلب بارد منذ سنوات. نريد أنسنتها بقوة: أنسنة أرصفتها وحدائقها وشوارعها. المدن ليست إسمنتاً وحديداً وأسقفاً مُقرمدة بالأحمر وعمارات. المدن نساء عامرات بالأنوثة والخصب والحب. والأهم أن يعاملها أهلها كأم أولى لا كزوجة أب.
الدستور