عمد البعض ممن اطلعوا على مقالي المنشور في عدد الاثنين بعنوان "نفترض أنهم أردنيون" إلى تقديم اقتراحات مفادها دعوتي للتركيز على جوانب أخرى فيما يتعلق بالأردن وتعامله مع ملف الحرب على قطاع غزة. ما يعنونه بالتحديد هو اقتراح جوانب سلبية تسهّل النهش بالأردن وسمعته ومواقفه، وهي جوانب يخضع تقييمها سلبا أو إيجابا وفقا لقناعاتهم وأهوائهم الشخصية، أو انتماءاتهم الفكرية والمصلحية.
بشكل لا لبس فيه، أود التوضيح لهؤلاء، أن إيمانا راسخا في وجداني لا مساومة عليه، ولا نقاش حوله، يتمثل في أن الأردنيين المنتمين لهذه الأرض لا ينظرون إلى وطنهم من زاوية التصيّد ورميه بالشبهات، ولا يتسابقون إلى تأليف سلبيات لا وجود لها إلا في مخيّلاتهم المريضة، وتهميش جميع الإيجابيات، خصوصا عندما نتحدث عن السياسة الخارجية.
مفهومي في الحديث عن الوطن ومنجزاته ومؤسساته وجهوده الدبلوماسية، ينطلق من التقييم الحقيقي، والنقد البناء، وتقديم المقترحات والحلول بمهنية، وبطريقة علمية، وليس التهميش والانتقاص من جهود الدولة تجاه ملفات إقليمية ودولية على مدى عقود، والتي لا يمكن لأحد إنكارها، سوى حاقد لا يريد أن يرى الأردن بأي خير، بل يريده جغرافيا محترقة كما هو النموذج الذي يفضله في الدكتاتوريات التي تحيط بنا.
من تكون دخيلته على هذه الشاكلة، فهو لا يستحق أن يعيش بيننا فوق هذه الأرض المقدسة. هذا الإيمان لا يتأتى من منظور عاطفي، وانتماء أعمى، وإنما من تجارب شخصية عشت تفاصيلها، وأرى من واجبي الحديث عنها، بدلا من الحكم المجرد المبني على الظن والأهواء، أو إبداء الرأي بناء على تأثيرات ما تزجّ به مواقع التواصل الاجتماعي، والذي يترك بصمة سلبية في قلوب الأردنيين وعقولهم تجاه دولتهم.
في العام 2000 كنت صحفيا في جريدة "العرب اليوم"، وقد سنحت لي الفرصة لأن أكون مرافقا للقوات الأردنية المشاركة في قوات حفظ السلام في سيراليون، لمدة زادت على أسبوعين، حيث كان مبيتي في ثكنة عسكرية، رفيقي فيها ضابط من قواتنا المسلحة. كنت أراقبه طوال اليوم وهو يؤدي واجباته، وأحيانا كنت أشاركه تنفيذ بعضها. كانت 14 يوما من أصعب الأيام التي مرّت في عمري، لأسباب أمنية خطيرة جدا، وإنسانية، وصحيّة غاية في التعقيد، حيث الصعوبة في الموازنة بين الواجب الأمني والإنساني.
ومع ذلك، كنت أستغرب جدا كيف يعمل المستشفى الميداني الأردني في سيراليون، وسط أمواج من الثوار الذين لا يمكن تمييزهم عن المدنيين، والذين كانوا يحملون صفة عسكرية ليلا ومدنية نهارا، وترتفع فيها رتبهم العسكرية تبعا لعدد رؤوس الجنود النظاميين التي يستطيع كل ثائر تجميعها. كانوا شبابا صغارا، ومع ذلك فقد كان بعضهم يحمل رتبة لواء في قوات الثوار.
لم تكن الخطورة التي يواجهها أفراد قواتنا أمنية وإنسانية فقط، بل كان هناك الوضع الصحيّ الذي شكل الخطر الأكبر، حيث وباء الملاريا المنتشر والذي كان يفتك بالبشر هناك، وقد أصيب به عدد من جنودنا، وقد زرت وقتها بعضهم وهم على أسرّة المستشفى.
لنا أن نتخيل أن يكون من ضمن أعدائك الخطيرين "البعوض".
قد يقول قائل في محاولة للانتقاص من دور قواتنا في حفظ السلام: "لقد كانوا يتقاضون أموالا من الأمم المتحدة نظير ما يقومون به!". أقول: نعم، كانوا كذلك، لكن لم يكن هذا هو السبب الرئيسي، وإلا لما استحق هذا المبلغ أن يفقد الجندي السردي (للأسف لم تسعفني الذاكرة لتذكر اسمه الأول) حياته في سيراليون منذ نحو 24 عاما، وهو على مسافة قصيرة من الاحتفال بزواجه. بالنسبة لي لقد كان سفيرا لدولته في الخارج، وممثلا لتضحية جنودنا في جميع الساحات.
بمثل السردي ورفاقه نفتخر، بينما أولئك الذين يشوّهون صورة الوطن ويحرّضون عليه، نقول لهم بكل وضوح وصراحة: اخجلوا، فأنتم في حضرة وطن، وليس مزرعة لآبائكم. وإن كان لا يعجبكم الأردن فبإمكانكم اختيار النموذج الأقرب إلى قلوبكم مما هو متوفر في محيطنا.
الغد