على حديثنا، جميعاً، في المفاصل السياسية، أن يكون راشداً، وأن لا يحمل إلّا بوصلة مصلحة البلاد والعباد، ولا يكون متحيّزاً سوى لمستقبلنا، وعليه فأتمنّى على من يجد في كلامي غير ذلك أن يقوّمه لا بيده، ولا بقلبه، بل بلسانه، قلمه، وذلك هو حديث الديمقراطية التي نقول جميعاً أنّها ملاذنا، وأملنا، وطريقنا إلى المستقبل.
وحتّى يرتاح الحكوميون منّا، ففي ظنّي أنّ قرار الحركة الإسلاميّة بالانسحاب مبيّت، وإتّخذ في وقت سابق، وقد يكون واحداً من سيناريوهات تعتمد على التطورات على الأرض، وفي حال وصلت الأمور إلى حدّ ما، فهذا هو القرار، والإنسحاب، والتصعيد، والتشهير، وكسر العظم.
وحتّى يرتاح الإسلاميون منّا، ففي ظنّي أنّ قرار إفشال مرشّحي الحركة الإسلامية مبيّت، ولم تدّخر الحكومة وسيلة دون أن تستخدمها، وبصرف النظر عن مشروعيتها القانونية، ولا السياسية، وقد فعلت في سبيل ذلك ما فعلت من تجييش السياسة، وتسييس الجيش، وقد أوصلت الأمور بنيّة مسبقة إلى كسر العظم.
وهناك تواريخ في الحياة السياسية المحلية لها ما قبلها، ولها ما بعدها، وبصرف النظر عمّا تلاها من أحداث فهي تُسجّل في حياة الأردنيين، منها الوحدة مع فلسطين، ومنها تعريب الجيش، ومنها خسارة الضفة الغربية، ومنها أيلول، ومنها فكّ الإرتباط، ومنها أحداث نيسان، ومنها أحداث الكرك، وهناك غيرها أيضاً، وكنّا نُسجّل بالأمس تاريخاً جديداً، هو الحادي والثلاثين من تموز الذي كسر في الأردنيون فيه العظم بين بعضهم البعض.
وليس سرّاً أنّ الأردن السياسي يتوزّع بين تيارين إثنين، تدور حولهما الروافد، أوّلهما التيار الرسمي الذي أثبت في كلّ المفاصل القديمة إنحيازه للوسطية، والتسامح، وعدم الوصول إلى كسر العظم مهما كان، إلاّ إذا كان الكيّ هو هو آخر العلاج، وقد استخدمه مرّة في أيلول السبعين، وحسم الأمر، ولكنّه عاد فوراً إلى الوسطية، وتلك كانت رسالة أولى وظننّاها أخيرة. ما نقوله إنّ الأردن الرسمي حافظ في مطلق الأحوال على تفوّقه السلطوي، دون أن ينسى التيارات التي تستغرق ما فوق وتحت السطح.
وفي الجانب الآخر، هناك التيار الثاني، الذي قُدّر له، في غياب شبه كامل للتيارات السياسية ذات المنطلقات الفكرية المختلفة، أن يقود عملية المعارضة، ومع التطورات السياسية والعسكرية في المنطقة وغيرها، من الحادي عشر من سبتمبر، إلى أفغانستان والعراق ولبنان، قُدّر له أن يكون مركزاً لإهتمام محليّ وإقليمي ودولي، باعتباره يمثّل "إسلاماً سياسياً" ذا مذاق مختلف، وفي الوقت نفسه فهو "إسلام سياسي" ذو طابع تصديري للعنف، وإن كان غير حاضن له.
والعلاقة بين التيارين كانت، دوماً، وظننا أبداً، قابلة للحوار والتسامح والتفاهم، ولكنّها أثبتت يوم أمس أنّها غير ذلك، ووصلت إلى نقطة كسر عظم غير مألوفة، أو مسبوقة، وغاب عن الطرفين حقيقة مهمّة، يعرفها الجميع، ولا يتحدّث فيها أحد.
فأهمّ ثلاثة من قادة وملهمي العنف السياسي في المنطقة، وربما العالم، كانوا من الأردن، فعبد الله عزام الذي راح ضحية إغتيال في باكستان كان الملهم الفكري والسياسي والعسكري والشخصي لأسامه بن لادن، وأبو مصعب الزرقاوي الذي راح ضحية عملية إغتيال أميركية في العراق، وكان الملهم التاريخي لتقريب الصراع إلى قلب المنطقة، وشاكر العبسي، الذي لم نعرف حتى الآن مصيره في نهر البارد اللبناني، ولكنّه يبدو لنا ملهماً أيضاً لإعادة صياغة المخيمات الفلسطينية باتجاهات عدمية عنفية، هم جميعاً أردنيون، وأيضاً من أبناء الحركة الإسلامية الأردنية، ولكنّهم مارسوا إلهامهم على ساحات أخرى.
وما نقوله، أيضاً، أنّ التفاهم التاريخي بين التيارين، الرسمي والإسلامي، في السنوات الأربعين الماضية، هو الذي أنتج حالة الرخاء الأمني، فأبعد تلك الروافد عن النهر، وجعلها تصرّف في الصحراء، أمّا ما جرى أمس، وإذا لم يتمّ إحتواؤه بسرعة فقد يفرّخ لنا عكس ما نريد، واللبيب من الإشارة يفهم، وأظنّ أن أطراف السياسة الأردنية كانت لبيبة في مطلق الأحوال.
وننهي بأن المطلوب من الإسلاميين، قبل الرسميين، أن يعودوا عن سياسة كسر العظم، فهناك دائماً مساحات أخرى للعب، والمطلوب من الرسميين أن لا يتعاملوا بعقلية الإقصاء، فتلك التي توصلنا جميعاً إلى ما لا نريد، إلى أردن لم نعرفه قبل الآن.